-
عرض كامل الموضوع : فى حب نجيب محفوظ.... دراسات
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:42
ولكن هذا الاستقرار لا يدوم لجعفر الراوي فهو يستدرج للعمل السياسي، أو للتفلسف السياسي، ويحتد في مناقشة فكرية مع زميل له فيقتله، وهكذا ينتقل من هدوء التأمل والاستقرار إلي رعدة الثورة والاضطراب، وهكذا نجد أنفسنا ـ دون أن نقاوم أو نفكر ـ أمام نقطة منطقية قادنا إليها نجيب محفوظ، بعد أن رسم لنا الشخصية، ونمت معنا خطوة خطوة حتي أصبحنا نتوقع منها ما تفعله، وهذا هو دور المبدع الحق، إنه يجعلك تؤلف معه الرواية، وعلي الرغم من أن المبدع يقود خطانا في درب مجهول لا ندري شيئًا عما يختبئ فيه، فإنه قد يبذر بذورًا جيدة. تنمو حتي تصبح حديقة نحيا في رحابها، صحيح أنها حديقة ممتازة ممتدة، وصحيح أن نباتات المؤلف نباتات برية ليس للحدائق بها عهد، إلا أننا ـ علي الأقل ـ نستطيع (بما قدمه لنا المؤلف من مقدمات) أن نعرف منطق النمو، وهو ما يجعلنا نقع فريسة للدهشة عندما نقرأ كل صفحة من الصفحات. لقد قدم إلينا المبدع أفضل ما كان يمكنه تقديمه، وقد كنا نتوقع منه ذلك، ولكننا نقر بيننا وبين أنفسنا أننا لم يكن لدينا أدني علم علي الإطلاق بما سيقدمه إلينا، وأني لنا العلم بما هو مستكن في ضمير مبدعنا. والحقيقة هي أننا حين نهب أنفسنا للعمل الفني الذي يقدمه لنا المبدع، إنما نجيز له أن يفعل بنا ما يشاء، أي أننا وثقنا به، وعقدنا بيننا وبينه عهدًا بأن نقبل ما يقدمه إلينا، ولكن هذا بالطبع لم يتم دون مقابل أو بلا مقدمات، لقد أقنعنا المؤلف بصدقه منذ البداية، وطلب منا أن نتنازل عن مقاومتنا، وأن ننخرط في العمل، أي ألا نكون متفرجين، وأن علينا ـ بالأحري ـ أن نكون لاعبين داخل الملعب، نصنع الحدث ونشارك في تنميته، وهذا ما نجح المؤلف في تحقيقه، والرأي عندنا أن جوهر العملية الإبداعية عند نجيب محفوظ يكمن في إعجاز الإيجاز الذي أفلح تمامًا، ودون أن يضحي بشيء من طزاجة التفصيلات، في أن يحققه في روايته هذه، محافظًا علي دقة السرد، وثراء التفصيلات، ووضوح الأفكار، وتلقائية الشخصية، وعفوية المشاعر، وطلاقة الأحاسيس، وصدق الوصف، سواء للأفكار، أو للانفعالات ، وبراعة التفسير، دون اللجوء إلي نوع من التلفيق أو التبرير اللاحق لما اضطر إلي وضعه من أفكار أو أحداث في المقدمة وقد أفلح المبدع في أن يحقق ذلك بأقل قدر من الألفاظ، وبأوجز حجم من الأبنية اللغوية، حتي ليمكنك أن تعثر في سطر واحد علي معانٍ وصور وأحاسيس، كان من الممكن أن تعرض في صفحات.
ولنأخذ مثلاً (ص 71) أحد أصدقاء جعفر الراوي يصفه قائلاً:
ـ إنك شيطان في تكيفك مع العربدة، ملاك في تكيفك مع الاستقامة.
2ـ نلاحظ أن هذا القول ورد علي لسان صديق له، وهذا يعني أن سلوك جعفر الراوي يمكن رصده وهو مطروح بجلاء أمام القارئ.
2ـ نلاحظ ثانيًا أن جعفر الراوي له جانبه الذي مازال يعانق الأسطورة ويلعب مع الجن، وهو قد تكيف معه وعاشره وأحبه وأخلص له (زوجته الأولي الغجرية مثلاً).
3ـ لجعفر الراوي كذلك جانبه النوراني، الاستقامة والاستقرار والحب الهادئ الرصين (الزوجة الثانية).
4ـ أن جعفر الراوي لديه القدرة علي التكيف مع الأوضاع المتباينة.
5ـ أن قدرته علي التكيف قدرة عبقرية، تصل إلي قدرات الشياطين والملائكة.
ويمكننا أن نستخرج من هذا السطر عددًا غير قليل من الدلالات التي توضح لنا قدرة نجيب محفوظ الفذة علي الإيجاز دون إخلال بالمعني، بل قدرته علي الإيجاز القادر علي الإيحاء بأكثر من معني، كالشمس تدركها صغيرة ولكنها تبث الأشعة المضيئة عبر ملايين الأميال وفي كل اتجاه.
خاتمة:
بعد هذه الجولة القصيرة، والنموذج الموجز الذي حاولنا به أن نقترب من عالم نجيب محفوظ، يمكن أن نصل ـ دون مبالغة ـ إلي استخلاص نتيجة محورية وأساسية، مؤداها أن أبرز خصائص العملية الإبداعية عند نجيب محفوظ هي تمتعه بقدرة متفوقة علي الأصالة (أي الإبداع في سياق الجديد الموجز غير المكرر والملائم لطبيعة السياق ومنطقه). (Guilford,1979:Barron,1968) وهو يقوم بذلك في إيجاز إلي حد الإعجاز، بحيث لا تجد كلمة زائدة عما يقتضيه المقام، ولا تعثر علي موضع كان يحتاج إلي مزيد من التفصيل، وهو ما يمكن أن ينظر إليه النقاد بوصفه إحكامًا للعمل الأدبي، وهندسة للبناء الفني، أو ما يحلو لبعضهم أن يطلق عليه اسم روعة المعمار الفني في روايات نجيب محفوظ، وليست تهمنا الأسماء أو العناوين أو اللافتات أو التعميمات.. إلخ، ولكننا نهتم في الأساس بالقدرة علي الإبداع، كما يمارسه المبدع في أحد أعماله الفنية، وكما يفرزه في سياق ما ينجزه من إبداعات، بحيث يجيء العمل الذي يقدمه صورة من قدرته، ودليلاً علي مدي براعته وتمرسه وسيطرته علي أدواته الإبداعية، ومعبراً عن «الأساس النفسي الفعال. Psychic Functional constitution الذي قاد خطي المبدع وهو يعمل وحرس تلك الخطي في الاتجاه المناسب، وحافظ عليها من الضياع والتبدد في منافذ غير مطلوبة أو مرغوبة وهو الأمر الذي حافظ علي وحدة العمل وجماليات المنتج ومنطقية البناء وسلاسة وتواؤم العلاقات بين مختلف مفردات العمل الإبداعي:
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:45
دلالة المكان
في أدب نجيب محفوظ
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
جمال عمر
كثير من الكتاب والمبدعين يمثل لهم المكان عنصرا مهما قد يلعب هذا العنصر دورا فاعلاً في إلهام وبعث كوامن النفس البشرية المعذبة وقد يحمل المكان دلالة واعية لبعض المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تمثل بعدًا تاريخياً أحياناً أو دينياً أو عقائدياً،حيث يشكل المكان مساحة تؤكد علي تيار فكري يتجذر في كيان الإنسان الذي يسعي إلي تحقيق ذاته في عالم قد يشعر أنه غريب أو مغرب بفعل البعد الاجتماعي وعدم الانخراط بشكل طبيعي في هوية هذا الوطن، وقد يرجع هذا إلي تكوين الفرد من بداية مولده مروراً بفترات ودلالات هذا المفردات بالنسبة له في انطباعه لما يحيط به من جغرافية المكان.
يؤكد هذا العنصر الروائي الكبير نجيب محفوظ، حينما يقول: «منذ مولدي في حي سيدنا الحسين وتحديدا في يوم الاثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن في وجداني عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائماً بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي حتي عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلي العباسية. كانت متعتي الروحية الكبري هي أن أذهب لزيارة الحسين. وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوي الحب لهذا الحي إلي أصدقائي، فتحت أي ظرف لابد أن تكون السهرة في الحسين، وحتي لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلي منتصف الليل لا نعود إلي منازلنا إلا بعد جلسة طويلة في «الفيشاوي» نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث».(1)
من خلال سياق هذه الاعترافات نشعر بأن المكان لعب دوراً كبيراً في أغلب إبداعات الروائي «نجيب محفوظ» حيث يسعي إلي رؤي واقعية تجسد مشكلات الحارة المصرية وفي نفس الوقت تعبر عن هموم وتطلعات هؤلاء الحرافيش، كما كان يطلق عليهم بل كانت إحدي رواياته التي لفتت الأنظار واهتم بها النقاد من حيث اللغة ومستوي الحوار وصدق البعد الاجتماعي الذي طرحه برؤي فلسفية متعمقة. مما لا شك فيه أن دراسته للفلسفة في آداب القاهرة كانت تنعكس علي أعماله الإبداعية علي مستوي الحوار بل ويزيد علي ذلك تكوينه الثقافي والمعرفي وتأثره بالكتاب العظام الذين انفتح علي قراءة رواياتهم التي انعكست علي موهبته الجبارة، (قرأت «الحرب والسلام» لتولستوي و«الجريمة والعقاب» لدستويفسكي، قرأت القصة القصيرة لتشيكوف وموباسان، في نفس الوقت قرأت لكافكا وبروست وجويس. أحببت شكسبير، أحببت سخريته وفخامته ونشأت بيني وبينه صداقة عميقة وكأنه صديق، كذلك أحببت يوجين يونيل وإبسن وسترندربرج وعشقت موبي ديك لميلفيل، أعجبني دوس باسوس ولم يعجبني همنجواي، كنت في دهشة من الضجة الكبيرة المحيطة به. أحببت من أعماله «العجوز والبحر» وجدت فولكنر معقداً أكثر من اللازم وأعجبت بجوزيف كونراد وشولوف وحافظ الشيرازي وطاغور، وهنا تلاحظ أنني لم أتأثر بكاتب واحد بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي، وعندما كتبت لم أكن أقع تحت تأثير أحدهم ولم تبهرني الإنجازات التكنيكية الحديثة) (2).
يؤكد نجيب محفوظ أن الصبغة التأثيرية التي سيطرت علي أعمالة الإبداعية لم تأت من هؤلاء الكتاب ولم يتأثر بإبداع فرد ما ولا بإنتاج مبدع ما لكن المكان الحارة هي التي كانت تشغل فكر ووجدان نجيب محفوظ، وهنا تظهر أهمية الخطاب الروائي الأيديولوجي حينما تنبعث رائحة الجمالية وعبق حي سيدنا الحسين وخان الخليلي وزقاق المدق خاصة الثلاثية التي شكلت مساحة مهمة جدا في واقعية أدب نجيب محفوظ والتي تمثل فترة تاريخية أو حقبة مهمة جدا في تاريخ مصر من بداية ثورة 1919 حتي الحرب العالمية الثانية وهي بداية الأربعينيات فكانت الشخصيات تعبر عن الصراعات القائمة بين تيار الوطنية الذي يحاول أن يكسر قيد الاحتلال خلال المظاهرات التي تلهب شعور المواطنين وتدفعهم إلي الميادين والأزقة شاهرين رفضهم للاحتلال الإنجليزي بقيادة الزعيم سعد زغلول الذي عشقه محفوظ وسطر أنصع الصفحات في حياته السياسية وكفاحه المستمر من أجل تحرير الوطن.
«في سني الصغيرة كانت ثورة 19 تمثل مجموعة من الناس يتجمعون ويهتفون ويهجمون علي بعض المنشآت ثم يضربون بالرصاص وتسيل دماؤهم وكنت أري الخيالة الإنجليزية في أيديهم البنادق التي يطلقونها علي المصريين. مازلت أري هذه الصورة واضحة في مخيلتي منذ سن السابعة وإن كنت في ذلك الوقت لم أكن أفهم هذه الأحداث(3).
لعب العقل الباطن الذي أصبح مخزنا للأحداث التي كانت تمر علي مراحل التطور السني لـ«محفوظ» من بداية طفولته انخرطت بشكل مباشر بالحارة المصرية متلاحما مع صدي هذه الأحداث أو مشاركا لها حتي كان يعود من آن لآخر لهذه الفترة يستلهم أو يستمد منها نسيجا لأحداث رواياته التي شكلت مرحلة مهمة وانتشارا واسعا لإبداعاته الروائية والقصصية أيضا.
بعد القاهرة الجديدة 1945 اتجه قلم نجيب محفوظ إلي حي قاهري شعبي عريق إلي حي الأزهر والحسين فاتخذه مسرحا بل قل موضوعا لروايتين متتاليتين هما خان الخليلي 1946 ، وزقاق المدق1947، وكان لحسن تصويره لحياة الناس في هذه المنطقة من القاهرة أبلغ الأثر في شهرة كل من المعلمين .إذ نجح في أن ينقل إلي القارئ صورة حية لجو الحي أضحت خالدة في ذاكرة قراء العربية.
ولا جدال في أن اسم زقاق المدق هو أول ما يتبادر إلي الذهن عند ذكر هذا الموضوع إلا أن لخان الخليلي مكانة خاصة في هذا الصدد فهي أول ثمرة لانفعال الكاتب فنيا بالحي الذي ارتاده سنوات بحكم عمله كموظف في وزارة الأوقاف «كانت خان الخليلي بمثابة استكشاف للإمكانيات الفنية للحي القديم وتلتها مرحلة أخري في الآفاق» (4)
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:46
يقول الأديب جمال الغيطاني لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولي مثل نجيب محفوظ، عاش في الجمالية اثني عشر عاما هي الأعوام الأولي من عمره ثم انتقل الي العباسية لكنه ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة إلي الحسين إلي الجمالية إلي الناس الذين عرفهم وعرفوه ثم كان المكان محورا لاّهم وأعظم أعمال الأدبية (5)
هنا تبرق خصوصية المكان في أحداث أعمال نجيب محفوظ الروائية وأهمية توظيف هذا العنصر بشكل يخترق الواقع البيئي وما تنتجه الحارة أو الحي من أشخاص يتحاورون ويصنعون في نفس الوقت عالما يخصهم تتجسد فيه عاداتهم: أفراحهم وأحزانهم وأوجاعهم. التماسك الأسري الذي ترجمه محفوظ من خلال علاقته مع عائلته التي يشعر أنها كانت علاقة مثالية من بداية حميمية الأب مع الأم والتعاطف مع الأبناء والتراحم الموجود بين العائلات وبعضها البعض. الزيارات التي تؤكد المودة بشكل تفقده المدنية والأحياء الراقية، حيث نجد الفرد يعيش بمعزل عن الآخر.
فالمكان يمثل دلالة واعية لجغرافية الحي من مقهي، صالون الحلاقة، محل البقالة، مكان المكوجي، البيوت التي تعلوها المشربيات، المساجد، المآذن، الميادين والحارات، مراسم الأفراح، المناسبات الدينية عندما يهل شهر رمضان بنفحاته الإيمانية والروحانية ويقوم الصبية بتعليق الزينات في مداخل الحارات والأحياء البسيطة، إحياء هذه الليالي بقراءة القرآن الكريم، حفلات الفطور التي تقام في المساجد.. كل هذه المظاهر كانت تشكل لنجيب محفوظ جزءا كبيرا من خياله الجامح الفذ الذي استطاع ببراعة فائقة أن يجعل روايته من لحم ودم هؤلاء جميعا.
«إن ما يحركني حقيقة عالم الحارة هناك البعض يقع اختيارهم علي مكان واقعي أو خيالي أو فترة من التاريخ ولكن عالمي الأثير هو الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي حتي أعيش في المنطقة التي أحبها» (6).
كانت هذه القراءة المتأنية في عنصر المكان لبعض أعمال الروائي العالمي نجيب محفوظ هي بمثابة إلقاء الضوء علي حياة هذا الراحل الكبير في عالم الأدب خاصة الرواية وما حقق من مكانة عالمية وما أضفي علي الأدب العربي من شهرة بين الآداب الأخري مثل الأدب الروسي والفرنسي والإنجليزي، مما أوجب علينا أن نُحيي رحيله من خلال أحاديثه الجميلة التي أرخت حياته الإبداعية من بداية الحارة مرورا بمراحل عمرية مختلفة حتي توج بجائزة نوبل عام 1988.
هذه القراءة ما هي إلا زهرة نادية نضعها بأيد حانية علي تاريخ هذا المبدع الذي اتسم بكل صفات الكاتب المتواضع فرفعه الله عز وجل أعلي مكانة في الأدب العالمي.
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:52
ماذا فعلت السينما
بأدب نجيب محفوظ؟!
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
شريط «ليل وخونة» نموذجًا
رجب سعيد السيد
قرب نهاية عام 1988، وعقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب، كان لي شرف تمثيل أدباء الإسكندرية في الاحتفال الذي أقيم بمقر رئاسة الجمهورية بالقاهرة، تكريما لأديب مصر النابغة. وفي حفل الاستقبال، الذي أعقب الاحتفال الرسمي، وقفت مع بعض الممثلين المصريين، ممن جرت العادة بدعوتهم لحضور الاحتفالات الرسمية، وأخذت أتحدث بصراحة عارية وحماسة شديدة عن أن السينما المصرية مقصرة في حق نجيب محفوظ، بل إنها عمياء عنه، وهو ـ في رأيي ـ بمثابة المورد الغني للأفكار والرؤي والأنسجة السينمائية، الكفيلة بإنتاج أشرطة عظيمة، لم تظهر حتي الآن، فعند محفوظ مخزون ضخم من الأحداث والحكايات والشخصيات المتفردة، غير أن مواهب السينمائيين الذين مروا بتاريخ السينما المصرية المواكب لظهور الأعمال الأدبية المتتالية لنجيب محفوظ، كانت قاصرة وعاجزة عن اكتشاف هذه الكنوز.
وبالطبع، فإنني لم أجد أذنا مصغية لدي أي ممن كنت أتحدث إليهم، فالواضح أن كلامي كان شديد الوطأة عليهم، ولم أكن، في ذلك الزمن، أجيد تلوين الكلام وتجميله بأدوات تخفف من وطأة الصراحة، غير أنني ـ بعد أن عدت إلي الإسكندرية ـ كتبت عدة مقالات قصيرة عن نجيب محفوظ، كان منها مقال عنوانه: «اغترفوا من نجيب محفوظ!»، فصلت فيه رؤيتي التي أجملتها في السطور السابقة.
والحقيقة الواضحة، هي أن نجيب محفوظ كاتب غزير الإنتاج، اكتسب خبرات عديدة متنوعة، ومر بتجارب وعصور متباينة، ونجح في أن يرسم لنفسه مسارًا لم يحد عنه، ضمن له مقعدًا في صفوف «المراقبين من بعيد»، غير المنغمسين في المشاركة الفاعلة، وهو، بذلك، قد اقتصد في طاقاته، ووفرها لصالح إبداعه، وقد وصل حرصه علي أن يبقي مشاهدًا من بعيد ومراقبًا إلي حد أنه كان يلجأ لحالة من الكمون الاختياري، في أوقات التقلبات والتغيرات الحادة، حتي تتضح الأمور، فيخرج للوجود المتغير، وينتج، مثله في ذلك مثل حلزون البحر، يلجأ لمخبأه الكلسي المنيع ـ قوقعته ـ إذا عبست له الحياة، فإن عادت وأقبلت، أخرج جسمه الرخو، وراح يسعي فوق خط الرمال المبللة وعلي سبيل المثال، اختفي نجيب محفوظ عن الساحة في السنوات من 1952، عام الثورة المصرية، إلي العام 1959، وبعد عودته للكتابة، أنتج رواية «اللص والكلاب 1961» المأخوذ عنها شريط «ليل وخونة» الذي نتخذه نموذجًا في هذا المقال.
قد يري البعض في ذلك سلبية من كاتب في حجم وقامة نجيب محفوظ، فالمفترض أن الكاتب مكانه مركز القيادة في المجتمع، وهو إن اكتفي بالمشاهدة تخلي عن دوره الطبيعي، غير أن الأمر بالنسبة لمحفوظ يغتفر، إزاء الإنتاج الغزير الرائع الذي أغني به حياتنا الأدبية، والذي توج بحصوله علي أرفع جائزة أدبية في العالم. ومن جهة أخري، فإن محفوظا وفر علي نفسه جهد الصدام المباشر، مفضلاً أن يعالج قضايا وطنه ومجتمعه، ويتعرض لأخطر المسائل، من خلال الكتابة الأدبية، وهي صنعته التي يجيدها، فقد كان ـ كما تشهد بذلك أعماله ـ مواكبا لجميع الأحداث والتطورات، وقال فيها رأيه في صياغة فنية متميزة، قصصًا وروايات، بل إنه وصل إلي درجة النبوءة، كما رأينا في روايته الشهيرة «ثرثرة فوق النيل» التي كتب عنها بعض النقاد أنها تنبأت بما جري في العام 1967. كما أن الغني السينمائي لنجيب محفوظ لا يقتصر علي رواياته، فكثير من قصصه القصيرة يصلح أعمالاً سينمائية، إذا توافر لها كاتب السيناريو المكتشف، الذي يضع يديه علي أبعادها المتنوعة وما تفجره من قضايا
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:53
ومن العلامات المهمة، والمثيرة للدهشة، في علاقة نجيب محفوظ بالسينما المصرية، سلوكه الفريد مع السينمائيين الذين تعاملوا معه، والذي سن به سنة غريبة، حين أعلن أنه غير مسئول عن العمل السينمائي المأخوذ عن رواياته وأعماله القصصية، فما تصنعه السينما جنس فني مختلف عن الروايات والقصص التي سطرها قلمه، وقد فتح بذلك الباب علي مصراعيه لكتاب السيناريو الذين يعطون أنفسهم الحق في تجاوز كل الحدود، وتغيير ملامح الأعمال الأدبية، وأحيانا مسخها، فقد أعطاهم كبير كتاب مصر الرخصة! وعلي أي حال، فقد قتلت بحثًا قضية العلاقة بين الشريط السينمائي والعمل الأدبي المعتمد عليه، وهي قضية تتداخل في تحديدها عوامل متعددة، منها: قيمة كاتب السيناريو وثقافته وقدراته الفنية، وزمن كتابة السيناريو، ومدي تطابقه أو ابتعاده عن زمن أحداث العمل الأدبي الأصلي.
فماذا عن النموذج الذي نتناوله الآن شريط «ليل وخونة» للمخرج الراحل أشرف فهمي؟
واضح أن أشرف فهمي كان يريد أن يقول إن لديه وجهة نظر مغايرة في محفوظ، فقد خاض تجربة التعامل مع نصوص محفوظية ـ «التعامل للمرة الثانية» ـ في عملين: «وصمة عار»، الذي عالج فيه رواية «الطريق» وكان حسام الدين مصطفي قد سبق أن قدمها في شريط يحمل العنوان الأصلي للرواية. أما العمل الثاني، فهو هذا الشريط «ليل وخونة» الذي عالج فيه رواية «اللص والكلاب» التي كان كمال الشيخ قد سبقه إلي معالجتها في شريط يحمل عنوان الرواية الأصلي، أيضًا. إن قيام أشرف فهمي بذات الفعل مرتين يؤكد رغبته في طرح وجهة نظر مغايرة، وهذا حق طبيعي، وربما يأتي غيره ويقدم لنا رؤية ثالثة للص والكلاب.. ولماذا نقول «ربما يأتي» فقد حدث فعلاً وجاء من قدم لنا «اللص والكلاب» للمرة الثالثة في الشريط السينمائي «الهروب» من إخراج عاطف الطيب وسيناريو مصطفي محرم الذي أباح لنفسه أن يقول إنه هو كاتب القصة والسيناريو والحوار! وعلي أي حال، ففي تاريخ الفن أمثلة كثيرة لتعدد تجارب التناول الفني لعمل أدبي بعينه.. انظروا ـ علي سبيل المثال لا الحصر ـ إلي الشيكسبيريات التي عولجت في مدارس فنية وفكرية مختلفة، وصبغتها رؤي ومذاهب سياسية شديدة التباين، وفي قوالب متعددة، سينما، ومسرح ومعزوفات موسيقية وأوبريتات وباليهات.
إذن، هو حق طبيعي أن يقول فنان إن لي وجهة نظر مغايرة.
وحق طبيعي لنا، نحن جمهور المشاهدين، أن نتساءل، في بعض الحالات: ما الضرورة؟ هل هي مجرد الرغبة في خوض «مغامرة» فنية؟ هل هي مسألة «استسهال»؟ هناك طريق معبد، شقه آخرون، فلماذا لا ندوسه نحن أيضًا؟
أغلب الظن أن نية المخرج والسيناريست كانت طيبة، إذ رغبا في التعرض للتغيرات الحادة والرهيبة التي حرثت المجتمع المصري في الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك عبر رواية محفوظ، ولكن السؤال الذي يلي تقديم حسن النية، هو: لماذا تم ذلك من خلال اللص والكلاب، بالذات، بينما يوجد ـ عند محفوظ وعند غيره من الأدباء المعاصرين ـ عشرات الروايات والقصص التي تتعرض للموضوع مباشرة، ولا تجعلنا بحاجة لأن نعتمد علي عمل بعيد نسبيا، ونلوي أذرعته، لنرغمه علي أن يقول ما نريد أن نقوله نحن، عن أحوال «هذه الأيام»؟! إن المزلق الذي تتعرض له مثل هذه المغامرة، يتمثل في أن المشاهد المتابع الواعي تكون لديه مرجعيته الخاصة، المستمدة من العمل الأدبي، ومن المعالجة أو المعالجات السابقة، وتظل هذه المرجعية حاضرة تحاوره، بل وتخيم علي وعيه، وهو يشاهد الشريط بل إنها قد تفسد عليه متعة المشاهدة.
إذن، ففد كان ثمة ما «يسد» في هذا المجال، ويقوم بالمطلوب ويرضي رغبة المخرج في المشاركة في حوار حول أحوال الوطن في زمن ما، فهل كانت المسألة مجرد استغلال لصيت نجيب محفوظ والضجة التي تزايدت حول اسمه، بعد حصوله علي نوبل؟
ثم إن الفيلم، علي مستوي الطرح النقدي، لم يقدم لنا لغة سينمائية متميزة مختلفة عن سابقه، بل كان ـ كرأي بعض النقاد ـ مجرد توليفة ـ سينمائية تجارية، من موجة سينما الثمانينيات، التي كانت تغازل مشاعر وحواس طبقات «خلفتها» الظروف الاجتماعية والاقتصادية الانفتاحية والتطبيعية، فرضت ذوقها، حتي يومنا هذا، علي المسرح والأغنية والسينما في مصر، بصفة عامة.
وفي رأينا فإن «ليل وخونة» يحاول أن يدين الحل الفردي، في زمن اتجه فيه الجميع إلي هذا النوع من الحلول، واتبعوا مبدأ «لينج كل بجلده!» و«ليهبر من يستطيع، بقدر ما يستطيع، ويجري!» وهي فرصة الاستثمار الحقيقي لانتصار جيشه في حرب حقيقية مع العدو الصهيوني، وتكفلت متتابعة الأحداث التي أعقبت الحرب بتغيير ملامح المجتمع المصري، بل زورتها. غير أن الشريط عرض هذه القضية الخطيرة بصورة لا تخلو من سذاجة، ولا تحترم عقلية المتفرج العادي، ناهيك عن عقلية المستنير، بل إننا كنا نتصور، في بعض المشاهد من شريط «ليل وخونة» أن المخرج والسيناريست قد نسيا هدفهما، وأنهما ينتصران للحل الفردي، لا يدينانه!
وقد تعمد شريط «ليل وخونة» أن يتباعد عن الرواية، مقتربًا من الحادثة الأصلية الشهيرة، التي أقام عليها نجيب محفوظ البناء الروائي للص والكلاب، حادثة سفاح الإسكندرية محمود سليمان فتغير اسم البطل من سعيد مهران إلي صلاح سليمان، وتغيرت مهنة الأستاذ المثقف المحرض من الكاتب الصحفي «رؤوف علوان» إلي المحامي محسب، كما تغير ـ دون ضرورة ـ اسم «نبوية» الزوجة الخائنة إلي «سناء» واسم «نور» البغي، إلي «قمر» واسم «عاشور عليش» ، «صبي» سعيد مهران، الذي خانه في غيبته إلي «شقرون»، والأخير هو اسم لشخصية محفوظية في رواية أخري، بل إنه اسم من نحت محفوظي خالص. فهل كانت هذه التغييرات رغبة من صانعي الشريط في الابتعاد أكثر، عن رواية نجيب محفوظ؟ لماذا إذن، تصدر اسم الكاتب «تيترات» الشريط؟ أعتقد أن جانبًا من الإشكالية كان يمكن أن ينتفي لو جاء في هذه «التيترات» أن الشريط «مأخوذ» عن رواية كذا، لنجيب محفوظ، وليس «قصة: نجيب محفوظ».
اسبيرانزا
11/01/2008, 08:54
إن مشكلة ابتعاد السيناريو عن جوهر العمل الأدبي تتضمن شقًا أخلاقيًا، مع احترامنا لحق نجيب محفوظ في التنصل مما تفعله السينما بأعماله، فالسيناريو ـ الذي يطلق عليه الجيل الجديد من السينمائيين، ربما استخفافًا لفظ «الورق» هو كتابة تصنع سينما، والسينما أداة تخاطب الملايين من جماهير لا تحب القراءة، أو لا تقبل عليها، أو لا تعرفها، إنها ـ هذه النوعية من الجماهير ـ تستمد ثقافتها العامة من هذه السينما، فيستقر في وجدانها ووعيها أن «هذا» هو نجيب محفوظ، وهذا هو فكره، لأن الشريط لا يلحق به مذكرة تفسيرية توضح الفارق بين الرواية والعمل السينمائي الملتصق بها، التصاق الطفيل بالعائل!
إن من يعرف النص الأدبي «اللص والكلاب» يجد أن كاتب السيناريو ضحي بالكثير ليصنع شريطه المسمي «ليل وخونة»، وارتضي من الرواية بزاوية محدودة للغاية. وربما كان السبب وراء تجاوز كاتب السيناريو لمحتوي نجيب محفوظ في اللص والكلاب، هو أن هذه الرواية مكتوبة بتكنيك «تيار الوعي»وهو ما يجعلها مكثفة، متعددة المستويات النفسية، التي يصعب ترجمتها إلي أحداث وحركة، أي إلي لغة سينمائية، خصوصًا إذا كان كاتب السيناريو محدود القدرات، أو أنه لم يشأ أن يبذل جهدًا أكبر. لقد استخدم محفوظ هذا التكنيك بحرفية بالغة، فجعل «نور» تبرز للبطل «سعيد مهران» من الظلام، فجأة.. من ظلام مهنتها كفتاة ليل، لتنير الطريق للبطل التائه، في عذابه أمام من خانوه وخدعوه، في حين أن «نبوية» الزوجة الخائنة لم تظهر لنا في الرواية إلا من خلال ذكريات مهران عنها، في تيار وعيه المنساب في تموجات متعاقبة، تعتمد علي استحضار الماضي «الفلاش باك» فتتعاقب الذكريات، ويتداخل الماضي بالحاضر، ويتشابك العالم الداخلي للبطل ـ من خلال «الفضفضة» أو «المونولوج الداخلي» ـ مع العالم الخارجي، الذي يصفه لنا المؤلف مستخدمًا ضمير الغائب.. ونحسب أن نجيب محفوظ هو أول من نقل هذا الأسلوب الجديد في كتابة الرواية، من كتاب أوروبيين، مثل: ألان روب جريبيه، وميشيل بوتور، واستخدمه في اللص والكلاب 1961،
كانت «نور» إذن، التي تخلي الشريط عن اسمها، وسطّح كاتب السيناريو شخصيتها، ترمز إلي شعاع الأمل الوحيد في حياة سعيد مهران المضببة الغائمة، وهو يتخبط وسط الذكريات الأليمة والواقع المرير الذي يعايشه، فهو لم يوفق في تنفيذ خطة الانتقام التي وضعها، فلما سدد مسدسه نحو أحد من الكلاب الخونة، أصابت رصاصاته أبرياء لا ذنب لهم، فتزداد عذاباته وآلامه. وهكذا، أصبح سعيد مهران ضحية للعدالة التي رغب في إقرارها هو بذاته، علي الخونة في مجتمعه، فأصبح طريداً بين بني جلدته، تلاحقه «الكلاب الحقيقية» للشرطة. ولم يكن أمامه سوي «نور» التي تخفيه في بيتها بالقرب من المقابر، وليس في عوامة علي النيل، كما في الشريط، بل إنها حاولت إقناعه بالابتعاد عن الجريمة، ومغادرة شهوة الانتقام، وتختفي «نور» عند نهاية الرواية، اختفاء مبهمًا، ولا يقول المؤلف كلمة واحدة عن مصيرها، وعن ذلك يقول نجيب محفوظ في لقاء خاص مع واحدة من دارسي أدبه: لقد اختفت «نور» من حياة بطل الرواية لأنها أدت مهمتها، فلم يعد بوسعها أن تفعل أي شيء من أجله، فهو مفقود مفقود.. لقد انتهي دورها في الرواية وفي حياة البطل، لذلك اختفت.
والجدير بالذكر أن نجيب محفوظ انتقل، في هذه الرواية، إلي بداية مرحلة جديدة من مسيرته الإبداعية، مخلفًا وراءه مرحلة اهتم فيها برسم محيط اجتماعي كامل، يغص بالشخصيات، إلي مرحلة يقدم لنا فيها شخصيات فردية معزولة، وقد استلزم ذلك أن يتلاشي العام الخارجي إلي أقصي حد، ولا يتبقي منه إلا ما يكفي ليكون خلفية روائية، تساعد في إبراز ملامح الشخصية الروائية المفردة.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:03
غواية الستر
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
في «أحلام فترة النقاهة»
أحمد سعيد
منذ بدأ نجيب محفوظ يكتب «أحلام فترة النقاهة» والاهتمام يتزايد بها عربيا ودوليا، فقد صدرت في كتاب في فرنسا قبل أن تصدر بالعربية وكتب فيها النقاد الكثير في الداخل والخارج، مقدمين تحليلاتهم المتباينة والمتعارضة. وهذه محاولة لتحليل بعض هذه الأحلام من منظور المدرسة التفكيكية،فما الحلم في علم النفس إلا محاولة من العقل الباطن لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه وفق منطق جديد.
تفكيك الحلم 118 من أحلام فترة النقاهة
من بين الأشياء «المحطة ـ الميدان ـ البشر»، حيث إمكانية التخفي تعجز أمام سحر الظهور، فلا مفر من أن يقع النظر علي ساحر الكلمات ويلمح الرجل الذي تردد كلماته الألوف في ميدان محطة الرمل، حيث لا نهائية الكلمات والمعني، وإمبراطورية الرمز، محطة تقاطع، وفوضي الخطوط الرملية وأثر عصا عراف الكلمات، وفضائية الدلالات، تلك المحطة التي تحمل كل مدارس المعرفة «طيبة ـ أثينا ـ روما ـ الإسكندرية ـ الجمالية» هنا رمل المعرفة اللانهائي وامتدادها الدلالي، والزحام دال علي تشظي المعرفة، وغياب المعني، وفوضي الدلالة، فتختفي قراءة وفردية المعني في زحمة الكلمات والأشياء ويلمح الرائي في ناحية ميدان الكلمات الرجل الذي تردد كلماته الألوف مؤلف النص، حامل الكلمات، كاهن وساحر القبيلة، وأنه يحاور، ويجادل، يغير، ويبدل، ينسج خيوط الحكي والحكايا، ويغازل غانية الأسئلة والتساؤلات ويغازل غانية الوجود، غانية المعني، مثيرة الدهشة والشهوة واللهث وراء المجهول الوجودي في الكلمات والأشياء والمعاني والوجود والإنسانية.
هي إيزيس التي تخصب الكلمات، هي غانية لذة النص ودفء الإثارة العقلية ويهمس الحالم الرائي ويشفق علي ابتلائه بغواية الكلمات والأشياء، فيأمر الرجل الذي تردد كلماته الألوف بالستر، فليس كل ما يعرف يقال، والحقيقة «امرأة» مُرة، وآفة حارتنا النسيان فهي لا تحتمل غواية غانية الكلمات وفوضي التساؤلات وتخشي حرافيش المعاني، فالكتابة ابتلاء لكل ما هو مألوف وأليف ويقيني، يهمس في أذنه بالستر لأن غواني الأسئلة تخاف حارتنا من غزلها فمن ابتلي بداء الكتابة فعليه بستر المعني خوفا من صليب التابوهات ومصير الحلاج ولأنه الرجل الذي تردد كلماته الألوف الذي يعرف سر الكلمات ويمتلك شفرات سحرها، ومفاتيح بوابات الدوال، والدلالات والإشارات، والسياقات، فهو يعرف أن الستر قلب الغواية، والغموض وسحر اللفظ والمجاز أبو المعني فيجيب نصحه هل ثمة ستر أقوي من ملابسها؟ فهل أقوي من ستر غواية اللغة بالحكي، الرواية، واللفظ يقصر عن المعني، فهل ثمة ستر في ميدان محطة الرمل المزدحم بالبشر أقوي من ملابسها «كلماتها..» ؟!
الشاهد والشيخ
تفكيك الحلم 123
الليبرالية والتنوير
يتجول الحالم ـ الرائي ـ الراوي في ميدان الأوبرا، يدخل مقهي الحرية الذي يجده خاليا من رواده عدا الشيخ مصطفي عبدالرازق يقرأ أوراقا بين يديه، فيتقدم الراوي الحالم سعيدًا بلقاء الأستاذ الشيخ، لكن الأستاذ الشيخ يتجهم في وجهه ويخبره أنه وجد اسمه بين شهود الإثبات فلم يدر الراوي الحالم ماذا يقول ولا كيف يعتذر؟!
دوال الحلم (ميدان الأوبرا ـ مقهي الحرية ـ الشيخ مصطفي عبدالرازق ـ أوراق الإثبات ـ الراوي) ودلالات الإشارات تثير التساؤلات، ويطرح لاوعي النص ـ الحلم عالما من المعاني والدلائل.
موقع الحالم/ الرائي / الراوي:
تتنوع وضعية الحالم / الراوي عبر تشكيلات الحلم / النص فهو أحيانا يروي من الخارج كأحلام الدلالة السياسية والاجتماعية لبعض الأحداث والشخوص، وتارة يشارك في جزء من الحدث داخل الحلم كأحلام المفارقة، والرمزية الشديدة، وأضواء الذات البعيدة، وأحايين كثيرة يروي بضمير المتكلم ويكون أحد أبطال ذلك الحلم إذا كان الحلم يحمل الرغبة في الوصول إلي حقائق البنية المعرفية.
سيكولوجية، سيمولوجيا النص/ الحلم:
يفتح النص والحلم بالإشارة إلي «ميدان الأوبرا» وهي إشارة دالة، ورمزية واضحة للتأويل، فالأوبرا هي رمز للتحديث، ودال علي خطوات التحديث، وبناء الذات، وتكوين بنية معرفية جديدة واصطناع خطاب تنويري تكون ريادته لرموز الفن، فتنشأ الأوبرا كخطوة علي طريق التحديث، وحركة تقدمية لتجديد العقل، والروح علي الرغم من أنها وليدة عصر الحداثة الأوروبي، فهل تكون الأوبرا بنت البرجوازية ميدانا عندنا؟!
«دلالة مقهي الحرية الخالي المُفارِقة»
وشفرة مقهي الحرية الخالي تدل علي حضور معانٍ كثيرة، فالأثر الذي يشير إليه المقهي حيث الوضعية الاجتماعية للمقهي في بنية المجتمع المصري، كمكان للاجتماع والتداول والمناقشة في مختلف الموضوعات الشخصية الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الدينية، بل والتأمل ومرور وقت الفراع، فهي تحمل في لاوعي المجتمع تقاطع المعاني من البرلمانية الشعبية إلي الفضفضة الذاتية، والتأمل في كل شيء، ودال الحرية يشير إلي المعني الحاضر من الدلالة علي الحداثة، والديمقراطية، الليبرالية الاجتماعية والسياسية، والتنوير، والمجتمع المدني، وتداول السلطة، والشفافية، وحرية التعبير، والاعتقاد، وحرية الصحافة، فمقهي الحرية مزدحم بآليات الحداثة، وأشكال التحديث. لكن مقهي الحرية «قيم الحداثة» يخلو من رواده التنويريين الأحرار، والراوي الحالم حين دخل مقهي الحرية (المجتمع، الوعي، التاريخ، الثقافي) وجده خاليا من رواده التنوير والعقل الواعي للمجتمع المصري، فالخلو يحمل تشكك الراوي «نجيب محفوظ» في تاريخية التنوير، والليبرالية، ويخلو مقهي الحرية من أي أثر لرواده التنويريين في أحداث وتشكيل الحداثة، وصنع التحديث، خلو المقهي (المجتمع - التاريخ) من أرضية ثقافية واجتماعية، وتراكم للتقدم، وغياب الرواد في المقهي ـ مجتمع لا يراكم معرفته، ولا يستقرأ خبراته، ولا يستنبط من تجاربه ولم تنشأ مادية تاريخية يستطيع المجتمع أن يراهن بها علي حداثته، فتصبح الحرية والليبرالية سرابا ويخلو المجتمع من رواده الأحرار، وأثرهم رغم المحاولات التي كأنها كانت تحرث في بحر، وصراخهم الذي كأنه في صحراء جرداء فلا يتردد غير صدي أنفسهم.
«الشاهد والشيخ»
وتأتي دلالة الاستثناء من الغياب بالحضور للشيخ مصطفي عبدالرازق رغم خلو المقهي من الرواد، ولا مراوغة بالتأويل، فالشيخ رمز ليبرالي من رموز التنوير، وأحد الأساتذة المؤثرين في وعي الراوي، فلماذا بقي الشيخ في المقهي الخالي من الرواد، ويجلس وحيدا يقرأ أوراقا؟!
الشيخ هو الوحيد الباقي في مخيلة النص، وزاوية الثقافة، فأستاذ الفلسفة حاضر دون بقية الرواد لأنه يمثل مجتمعا وعصرا حمل تنويره مشايخ، فحضوره تجسد لصيرورة الثقافة التي يمثلها مقهي الحرية «المجتمع» ورواده الغائبين «البنية المعرفية» والتنوير، والليبرالية التي حاولت التوفيق بين أصالة الذات، وحداثة العصر، فيكون حضوره تعبيرا عن مأزق الحداثة «خلو المقهي» الجدلي لتصير المواجهة بين الرائي، والشيخ، بين التلميذ والأستاذ، ورغم حميمية اللقاء وبهجة التلميذ، لكن الأستاذ يتجهم في وجهه لأن التلميذ اسمه بين شهود الإثبات مدون في الأوراق أمامه فهل تكون رمزية الأوراق هي روايات الحالم؟ وتكون هي شاهد الإثبات علي ما كان، علي اعتبار أن التلميذ ـ الحالم ـ الراوي هو شاهد علي الذي تكون أثناء رحلته من ميدان الأوبرا «بداية التحديث» إلي مقهي الحرية «المجتمع المدني» الحالي وتكون الثلاثية، وأولاد حارتنا، والمرايا، ثرثرة فوق النيل هي أوراق الإثبات التي قرأ الأستاذ اسم التلميذ فيها بين شهود الإثبات، ويصبح الشيخ الأستاذ أيضا متهما بحضوره الجدلي في المقهي الخالي من الليبرالية والليبراليين؟ ولم ينف الراوي التلميذ ـ الحالم «نجيب محفوظ» شهادة إثباته علي الشيخ وكيف يقول، ويعتذر عن وقائع، أحداث، وثقافة عاشها، وعايشها، ولم تنتج في النهاية حرية أو روادا، كيف يعتذر عن مجتمع، وذهنية، وثقافية، لم يستفيدوا من ريادة الشيخ؟ وشهادة الرائي والشاهد في النص هو ضمير المجتمع، والشيخ هو واقع المجتمع الذي كانت فيه الليبرالية وهما، والليبراليون سرابا..
فماذا نقول.. وكيف نعتذر..؟!
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:07
تفكيك الحلم 109 ـ خيانة الوصايا
يتلاعب الرائي الحالم ـ نجيب محفوظ ـ ويربكنا برؤياه، حيث هو الحاضر الغائب، ونحن القراء الغائبون، الحاضرون وفق منطق ولعب الحالم، وعالمه الذي يكسر توقعك ويطيح عبر الدال، والمدلول والمعني وحكيه بكل قواميس المعرفة والحقيقة، فيقوم الحلم بتفكيك دلالات وآليات لاوعي الحالم فتبتهج بمكاشفات اللاوعي المحفوظي.
يشرف الحلم المحفوظي ويبين عن مُعلمِ يعلم الموسيقي والألحان، والجملة الاسمية الاستهلالية تضعك في مركز الحدث، وتشركك في الحلم، فالحقيقة بنت التصور واسمية العبارة تعطيك الثبات والاستمرار، ثبات الدال، واستمرار الدلالة، إنه معلم حامل للعلم، والتعليم والمعرفة، وهو المعلم، والعالم، والعارف، والشيخ، هو المعلم الذي يملك وسائل المعرفة، وعلوم المعارف، وأسرار الحقيقة، ورب وخالق الأسماء كلها لأنه يعلم (يرشد، يوحي، يرسل) الموسيقي والألحان، فتلك العلوم هي معاني الحالم الموجودة، موسيقي الحياة، الأحياء موسيقي الإنسان، والإنسانية، والألحان والكشف والاتحاد والحلول، وألحان العاشقين وفتوحات الربانيين، هو المعلم الذي يلقن آدم (هذا تلميذي) يعطيه وسائل الحياة ولا يغوي بالأكل من الشجرة، يعلمه الأسماء كلها، ويفخر (هذا تلميذي) بعد أن علمه وأعطاه وسائل الكشف، فيصير هو موسي الكليم، الباحث عن الرجل الصالح ليكشف له حقائق التناقض، ويزيل عن لوقا، وسمعان، وبطرس، لجلجة الإيمان، ويأتي بـ «دون كيشوت» ليصطحب عوليس باحثين عن درب اليقين، ويعودا بروح الموسيقي والألحان الإنسانية، وبعد أن تلقي التلميذ علوم الموسيقي والألحان بعد أن أصبح عارفا وأكل من شجرة المعرفة، وسمي الأسماء وتبينت له حقائق التناقض، وأمسك بالألواح المحفوظة وعاينها (يثري بالموسيقي والألحان، وأدمن المخدرات) فعصي آدم ربه فغوي، وبعد أن أصبح عارفا مثله، وتجلي له اليقين عن جبل الحياة، وبعد أن تجاوز سفر التكوين ليكتب سفر الخروج، ويبيع المريد شيخه بدراهم من فضة، وينكر شيخه الأكبر ومعلمه فوق الصليب ويخون الوصايا ويكسر الألواح ويخرق الناموس الأزلي للمعلم، وينسي المريد العهد، ويصبح المعلم، الشيخ، صاحب العهدين، الأب العارف في الظل (يبقي منسيا) ومحجوبا بحجب المعارف، ويكتفي ويترك عمله الجميل الشاق (الموسيقي والألحان) ويندم علي مريده المتمرد وهرطقة سقراط، فيشتغل المعلم، الشيخ، العارف، الخالق، مرشد الحقيقة، ومالك اليقين (بتدريس التاريخ) وتدريس علم الآثار لأنه انتهي وانقضي زمن الشفاهية، وعصور التلقي، والتلقين، وتبدد سراب الإيحاء وتطور الوعي وعاد كيشوت بحقائق أوهامه.
وعاد عوليس بعد أن تحطمت سفنه، ليعيش فوق شواطئ التاريخ، الذكريات، وعلوم الآثار، لتصبح الكتابية، والمكتوب هو الثابت الواعي ويصبح المعلم، الشيخ من يعلم الموسيقي، والألحان، ويفخر بتلميذه المتمرد، هو المشغول بتدريس التاريخ (وعي الإنسانية) وعلوم الآثار (فلسفة وجدل الواقع) وبعد أن كف التلميذ عن التعلم (مغامرة العقل الإنساني) والعلم (البحث عن الحقيقة) وتساوي المعلم، والتلميذ فوق صليب الحقائق والحياة، وتصبح الآثار هي ملاذ المعلم والتلميذ (الإنسان) وضاع صوت التلميذ وتلف بعد أن أصبحت فوضي المعرفة، وفساد اليقين، وفلسفة اللايقين، وتشظي الدلالات، هي الواقع الجدلي، ولذلك حين يجتمع المعلم والتلميذ، وحين يلتقي العارف بذاته صاحب الموسيقي والألحان، مدرس الآثار بالتلميذ الضال، والسامري التائه، خائن الوصايا، الضائع في الزمن المفقود، فلا يعرفه الشيخ؛ لأن الشيخ والمعلم بددته سحب التغيير والتطور، ولأن التلميذ أنكره علي الصليب وصرخ في وجه معرفته «لماذا تركتني؟» فخان وصاياه بامتياز وتصبح المعرفة لا معرفة، فلا يتعرفان لأن الرائد، والمريد كليهما دخل أتون الصيرورة (وحدث أن جمعنا حفل ساهر، فلا هو عرفني ولا أنا عرفته، وأخذت أتساءل مع كثيرين عن تدهورنا وما جري لنا» أ.هـ
تفكيك الحلم
أكروبول أولاد حارتنا الغنائى
يسرد الحالم نجيب محفوظ، ويشكل وضعيات الحارة الغنائية، والتاريخ السماعي لتلك الحارة الثرية بتراث هائل من تاريخ الطرب والمعرفة الصوتية والسماعية، حيث يسير في معية الشيخ زكريا أحمد ليكشف عن البيئة الأصلية للجذور الغنائية، وأهل الفن الخارجين من عباءة المشايخ، فهم أهل التلاوة وأصحاب المقامات الموسيقية، وسادة القراءات فآمنوا أن من «لم يتغن فليس منا» هكذا يقود الشيخ زكريا الراوي إلي أعلام السماع وإلي الهضبة الغنائية «مصر ـ قيم الجمال» تتصدرها كوكب الشرق، سيدة الحضور، وامرأة الحضور الغنائي، ملكة الأداء والتنويع، بنت التواشيح والمقامات، وحلقات الذكر، والمدائح النبوية وصاحبة الذوق البلاغي «أم كلثوم» تتوسط الحضرة وتقود الذاكرين وعلي سحر حضرتها الذكية يتوافد أولياء الجمال وأهل المعرفة السماعية: الحامولي، وعثمان، والمنيلاوي، وعبدالحي حلمي، والشيخ الأكبر والقطب الكبير، سيد درويش، ويحضر محمد عبدالوهاب ليكمل العهد، ويستكمل النوتة الموسيقية مجدد فقه السماع والأقنوم الثالث لثالوث الغناء: أم كلثوم، سيد درويش، عبدالوهاب. ولا يخلو الأكروبول من نساء الغناء المصري، فتحضر منيرة المهدية وفتحية أحمد، وليلي مراد، وحين يكمل أهل الحضرة، وتكتمل مواقف الطرب، تردد كوكب الشرق: سمعت صوتا هاتفا في السحر فلا يصح السماع إلا في السحر وتجاوبها منيرة المهدية حين يستشعر الحاضرون القلق، ويرد عليها الشيخ الأكبر بوجوب الزيارة كل سنة، والتحذير من هجر هضبة الجمال ويختتم الشيخ زكريا في توسل جميل عشرة الماضي الجميل، فهؤلاء هم الماضي الذي يجب ألا يمضي، ويأتي الحالم والراوي نجيب محفوظ ليتلو الفاتحة علي كل هذا التاريخ العائش فينا، فهؤلاء هم قادة الغناء وسادة المقامات، وأولياء الجمال، فكيف لا يسود القلق بيننا؟!
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:10
الاهتمام المبكر بنجيب محفوظ
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
لدي المستشرقين الفرنسيين
أندريه ميكيل نموذجًا
الدكتور أحمد درويش
لعل من المعتاد الآن، أن نجد روايات نجيب محفوظ المترجمة إلي الفرنسية، تزدان بها واجهات بعض المكتبات في الحي اللاتيني بباريس، قريبا من جامعة السوربون القديمة ومدرسة اللغات الشرقية، وجامعة السوربون الجديدة في الناحية الواقعة بين نهر السين وحديقة لوكسمبرج الشهيرة.
ولعل من المعتاد الآن أن نجد ندوات تقام حول أدب نجيب محفوظ لا تقتصر قاعاتها علي الجامعات وحدها، وإنما تمتد إلي المنتديات الثقافية خارجها، بل وتمتد خارج باريس إلي مدن صغيرة أو كبيرة في أرجاء فرنسا، تشارك في الحوار حول إبداعات الكاتب العربي، الذي دخل إلي مجال الذائقة الفنية للقارئ الفرنسي والغربي عامة، حاملا معه مزيجا من عبق الشرق القديم وتقنيات القصص الحديث، في بحثه الفني الدائب عن العام من خلال الخاص وعن الإنسان من خلال ما يبدو تخييلا بالواقع وعن العالمي من خلال المحلي.
بل إن دائرة الحديث عن إبداعات نجيب محفوظ لم تعد قاصرة علي أهل الاستشراق وحدهم حيث تعدتها إلي المهتمين بالأدب الروائي والإنساني عامة، بل ولم تعد وقفا علي المتخصصين في الآداب حين دخل إلي دائرة الاهتمام باحثون في السينما والفنون التشكيلية الجميلة، وعلوم الاجتماع وأحيانا باحثون في الحقل السياسي.
وإذا كان هذا الاهتمام بإبداع نجيب محفوظ في جوانبه المختلفة قد أصبح معتادا الآن وعلي نحو متدرج منذ حصوله علي جائزة نوبل العالمية فإن الأمر لم يكن كذلك منذ أربعين عاما في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات، حيث لم يكن اسم نجيب محفوظ يملك درجة كافية من الشيوع في الأوساط العالمية، ومن هنا فإن بواكير اهتمام الاستشراق الفرنسي بنجيب محفوظ في هذه الفترة يكتسب أهمية خاصة، وينبغي أن يعاد النظر إليه في ضوء أهميته في اكتشاف العبقرية الروائية لمحفوظ، والعمل علي توسيع دائرة التعريف به قبل حصوله علي جائزة نوبل.
ولعل من أقدم الدراسات الفرنسية التي صدرت عن نجيب محفوظ، مقال جومبير الذي صدر سنة 1957 في أعقاب صدور الثلاثية وهو يحمل عنوان La vie d'une famille au Caire d'après trois romans de Naguib Mahfouz.
حياة أسرة قاهرية من خلال ثلاث روايات لنجيب محفوظ إضافة إلي رسالة جامعية لجمال شهيد حول الموضوعات الاجتماعية في إنتاج نجيب محفوظ.
Les thèmes socialistes dans l'oeuvre de Naguib Mahfouz
وإلي كتاب آخر قيم إضافة نفس الباحث في مطلع الثمانينيات حول «الوعي التاريخي في روايات، إميل زولا ونجيب محفوظ.
Conscience historique dans Rougon-Macquart d'Emile Zola et dans les romans de Naguib Mahfouz
لكن أهم الدراسات المبكرة التي قدمها الاستشراق الفرنسي عن نجيب محفوظ في هذه المرحلة يتمثل ـ فيما أعتقد ـ في كتابات أندريه ميكيل، الذي يعد شيخ المستشرقين المعاصرين، وميكيل كان قد ولد سنة 1929 في جنوب فرنسا، ودرس العربية علي يد بلاشير، وعمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت وإثيوبيا في الخمسينيات وكان يعد رسالته للدكتوراة حول كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وقد عين سنة 1961 مستشارا ثقافيا لفرنسا في مصر واتجه إلي أن يجعل رسالته الثانية للدكتوراة حول «الحياة الثقافية في مصر» واقترب من إنتاج نجيب محفوظ وغيره من الأدباء المصريين المعاصرين، ولكنه تعرض لمحنة قاسية نتيجة للخلاف الشديد بين فرنسا ومصر حول القضية الجزائرية آنذاك والتي كان عبدالناصر يدعم خلالها بشدة مطلب الاستقلال الذي حصلت عليه الجزائر سنة 1962، وخلال أحد ملفات الخلاف، اقتيد أندريه ميكيل، ومجموعة من العاملين في السفارة الفرنسية بالقاهرة إلي السجن الحربي بالقلعة في القاهرة، وقضي فيه عدة أشهر كان من نتائجها الأدبية فيما بعد كتابه الذي سجل فيه مذكراته عن تلك الفترة وأطلق عليه عنوان «وجبات المساء» Les repas du soirوقد دفعته تجربة السجن إلي مغادرة مصر، وتغيير موضوع أطروحته للدكتوراة، ليكون حول الجغرافية الإنسانية للعالم الإسلامي في منتصف القرن الحادي عشر للميلاد وقد ترجمت إلي العربية وقد عمل ميكيل بالتدريس في الجامعات في فرنسا منذ سنة 1968 وشغل منصب مدير معهد لغات الشرق والهند وشمال إفريقيا بجامعة السوربون الجديدة، ثم انتخب أستاذا لكرسي الأدب العربي في الكولج دي فرانس سنة 1975 وظل يواصل عطاءاته في التعريف بالأدب العربي القديم والحديث، وترجمة روائعه إلي الفرنسية، وبلغ به حبه للشعر العربي درجة جعلته يحاول كتابة قصائد شعرية باللغة العربية تتمتع بمذاق جمالي خاص.
وأبرز دراسات أندريه ميكيل عن نجيل محفوظ في هذه الفترة المبكرة تتمثل في الدراسة التي نشرت سنة 1963 في مجلة Arabica تحت عنوان الفن الروائي عند نجيب محفوظ Le technique du Raman chez nagib mahfuz وقد تناولت سبع روايات مبكرة لنجيب محفوظ ونظرا لأهمية هذه الدراسة في تمثيل روح هذه الفترة المبكرة في الاستشراق الفرنسي فسنقدم مع هذا المقال ترجمتنا الكاملة لها.
الملاحظات التي سوف يجدها القارئ في هذا البحث لا تطمح إلي أن تستنفد كل مجالات الإنتاج الروائي عند نجيب محفوظ، بل إنها سوف تترك جانبا كل ما يتصل بالجوانب الاجتماعية أو جانب الدراسات الأسلوبية الخالصة، ولن يجد القارئ هنا اهتماما بالنماذج البشرية أو الاختيارات السياسية الكبري أو الفن النثري أو طبيعة اللغة المستخدمة، وإنما هدفنا في هذا البحث أن نحدد ملامح إنتاج نجيب محفوظ في إطار المعني المحدد «للفن الروائي» ويبدو لنا أنه من خلال هذا الطريق أكثر من أية وسيلة تحليلية أخري يمكن للدارس أن يضع إنتاج نجيب محفوظ في مكانه في الإطار الواسع لتاريخ الرواية العربية أو تاريخ الرواية بصفة عامة.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:11
إننا لن نستطيع أن نغفل مع ذلك القول إن الملاحظات التي سوف يجدها القارئ حول الروايات الثماني التي اخترناها محورا للدراسة هنا(1)، سوف تظل إلي حد بعيد مجالا لإعادة النظرة الذاتية البحتة أو في إطار دراسة تاريخ الروايات الأخري لذلك الكاتب (2).
عند قراءة وإنتاج نجيب محفوظ لا يستطيع المرء أن يفلت من إحساس شعوري عارم بوجود وحدة تتخلل ثنايا المنظور التاريخي لتطور فن الرواية عند نجيب محفوظ طوال فترة نتاجه (3)، فحتي 1946 كان نجيب محفوظ يكتب المقالات والقصص (4) والروايات التاريخية(5) وكانت خان الخليلي هي بداية الإنتاج الكبير أعني بداية الإنتاج الذي سوف يجعل من نجيب محفوظ بدءا من هذه اللحظة روائيا كبيرا ربما يحمل بعض ملامح القصور الفني(6) ولكن كل الخواص التي سوف تبرز في الأعمال التالية له كانت قد قدمت هذا العمل وجاءت الرواية التالية «زقاق المدق» لكي تؤكد هذه الخواص بصفة قاطعة (7).
وإذا لاحظنا من جانب آخر أن نجيب محفوظ لم يطبع أية رواية خلال السنوات 1950 ـ 1955 و1968 ـ 1961، فإننا نري أن سنوات الخلق الأدبي لديه حتي 1963 هي نحو سبع سنوات، وهي بدورها مجزأة إلي ثلاث مجموعات: 1946 ـ 1949، 1956ـ1957 ،1962ـ1963، وتسجل السنتان الأخيرتان تصاعدا في كثافة الخلق الأدبي لديه (8).. إن هذا التجميع الزمني لإنتاج نجيب محفوظ هو دون شك أقوي دليل علي وحدته وسنوات الثلاثية تشكل في الواقع مشهد الفاصل بين عصرين روائيين منفصلين ومختلفي الأبعاد لديه، وقد يقال إنه فاصل وقاطع خاصة علي مستوي فكرة الزمن الروائي (9)، وربما إذا خرجنا عن إطار بحثنا علي مستوي اللغة والأسلوب (10)، ولكنني لست متفقا تماما مع ذلك، فالأمر في تقديري يتعلق بفارق يظل سطحيا، رغم كل شيء ومن ثم، فإن اختلاف نوع الروايات من حيث الطول لا ينبغي أن يوضع موضع التساؤل، عناصر الاستمرار العميقة التي تهيمن علي المعالجة الفنية في كل الإنتاج حتي في إطار فكرة الزمن الروائي كما سنري.
بقي أن نقول إن إنتاج نجيب محفوظ يكتسب قوة أصالته بالدرجة الأولي من «الإطار الروائي» ذلك الإطار الذي يمثله حي سيدنا الحسين أو علي وجه التحديد تلك المنطقة التي تقع في ظلال سيدنا الحسين داخل متاهات الأزقة مثل خان الخليلي وزقاق المدق، وما يتفجر منها أحيانا من شوارع الحي الرئيسية مثل السكة الجديدة والصنادقية ورحيل بعض الشخصيات إلي أحياء أخري مع أنها مجاورة، سرعان ما يأخذ من الناحية الجغرافية والشعورية طابع الاغتراب، الذي نادرا ما تقطعه فرص زيارة الحي.
إن القاهرة هذه المدينة الكبيرة، تبدو ـ عند نجيب محفوظ ـ من نظرة طائر مقسمة إلي عدد من المناطق يأخذ كل منها طابعا محليا دقيقا يتميز بمذاق خاص فإلي جانب سيدنا الحسين توجد أحياء أخري يتمتع كل منها أيضا بحياته الخاصة مثل شبرا في «بداية ونهاية» والدقي في «السمان والخريف»، وأحياء أخري غيرها تسهم كل منها بنصيب في صورة القاهرة المتعددة الأوجه (11).
إن وراء المشهد الثابت للضاحية تكمن طية تالية من طواياها بعيدا وراء محدوديتها النظرية، ويكتشف المرء داخل هذه الطية طوايا أخري تخبئ داخلها ألوانا من الحياة المكثفة ويظهر هذا اللون أو ذاك علي نحو خاص حول شخصية من الشخصيات التي تظل هي محوره، تلك الشخصيات التي تتسم بقدر كبير من الثبات لا تظهر داخل الإطار الروائي إلا هنا مثل شخصية «المعلم» في مقهاه، «التاجر» في محله، و«المتسول» في ركنه من الطريق.
وهكذا فإن مظاهر الحياة التي تتقارب من أرجاء القاهرة الشديدة الاتساع متجهة إلي ضاحية خاصة تتوزع في ظل لون من ألوان الحيوات، وما يتولد عنه من مجالات ثانوية، فالثلاثية تقدم نماذج متعددة علي المهارة الفنية الخالصة مثل المشربية التي ترقب الأعين الساخرة للفتيات الجالسات بالمنزل من خلالها المارة، أو ناصية الشارع حيث تنطلق أحلام الفتي، وهو عائد إلي منزله وحيث يلقي الجنود الإنجليز القبض علي الصبي الصغير في ذلك المكان رمزا لكون نهاية الشارع هي نهاية الهدوء والأمان اللذين تتمتع بهما الجنة المحوطة بالأسوار.
إن «الجنة» الوحيدة والحقيقية والمركز العصبي للرواية هو «المنزل» الذي يعطيه الوسط العائلي نوعا من الاستقرار بالقياس إلي كل شيء آخر، وبين كل الشخصيات التي تنجذب حولها أحداث الرواية فإن شخصية «الأم» هي أكثرها ثباتا (12) ومع ذلك فإنه هنا وحول الحجرة الرئيسية التي تلتقي فيها الأسرة في أوقات مختلفة من اليوم تتم الحركة المكملة للتوزيع، والانتشار حول حجرة الأب أولا في الثلاثية، حيث يتم حسم أخطر القرارات، ولكن هناك كذلك حركة حول «الردهة» أو حول السلم (13)، وفي النهاية فوق الأسطح، حيث تتبادل إلي جانب حظائر الدواجن كلمات الحب وإشاراته.
في الوقت الذي تتأكد فيه أمامنا هذه المحدودية لعالم الرواية المكاني، كنا نتوقع - من خلال اتباع التكنيك التعويضي الشائع - أن تكون هناك حيوية وغزارة في جانب الوصف (14)، ومع ذلك فنحن نفتقد أيضا هذه الغزارة، فالسمة البارزة «للوسط الروائي» عند نجيب محفوظ تكمن في اتزانه إن لم نقل في تواضعه، فالمؤلف لا ينتمي إلي نمط «بلزاك» وعينه لا تتريث طويلا أمام مبني أو معلم لكي تكتشف فيه بعض أسرار محتواه الباطن أو شكله الظاهر، ولكن يبدو عنده الأمر علي عكس ذلك، فالمدن والمنازل والأشياء يمكن أن تتلخص سماتها في بعض خصائص رئيسية، إنها تظهر في العمل دون شك، ولكنها مثارة أكثر منها موصوفة.
ولنأخذ علي سبيل المثال «ضجيج المدينة»، لقد عشت أربعة أشهر متواصلة في أحد أحياء القاهرة الشعبية بالقرب من سيدنا الحسين، في مكان يشد الأذن أكثر من العين، أنا أعلم الثراء الخارق المتنوع لأصوات لياليها وأيامها، ولكنك لا تجد عند نجيب محفوظ أي تصور مجسد لهذه الحياة ولا لرنينها البسيط، وقد يرد تصوير هذه الأشياء في مصادفة أحداث الرواية، ولكن لا يوجد هنا علي التأكيد مثل ما يوجد عند «بروست» من رسم سيمفونية «لضجيج باريس» (15).
ولسوف نري عندما ندقق النظر في مجمل الأمور وخاصة في مستوي المسكن المنزلي سببا يكمن وراء تلك الظاهرة ذلك أن كل الأشياء متواضعة شأنها شأن الناس في عالم الرواية، حيث تتردد الكلمات النمطية نفسها التي تصف بعض المقاعد والحصر أو الصناديق التي تكفي لكي تغطي الديكور النمطي لذلك اللون من الحياة المعوزة، لكن يوجد هنا ما هو أكثر من مجرد الإرادة البسيطة التي تشغلها الملاءمة مع الحقيقة. يوجد رفض ملح للتلاؤم الديكوري، ففي «اللص والكلاب» علي سبيل المثال نلتقي بالتتبع النسقي ولا تكاد الخصائص المحلية ترد إلا علي نحو شديد الاختصار وكأنها خصائص ترسم القصص الهيكلي للعمل، ويمكن أن تقارن هذه الخصائص في إطار العمل الروائي بالتوضيحات الطبوغرافية التي تحدد معالم الطريق منحدرة في شكل قوس من لافتات رخامية تحذر المشاهدين من الاصطدام بخطر الأشياء، ونلحط حتي دون الدخول في منهج العمل الفني في «اللص والكلاب» أن هنالك رفضا للاعتراف بوجود لون من الجمال في الملامح الديكورية القبيحة المتناسقة، وهو موقف مضاد بداهة لموقف الزائر الأجنبي الذي لديه الاستعداد والجاذبية في أرض غريبة عليه، أن يجد الروعة في كل الأشياء حتي في البؤس ذاته
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:12
وانطلاقا من وجهة النظر هذه فإن تظليل أجزاء معينا من الديكور لا يبدو بعد كل شيء إلا معالجة روائية للون من الاحتجاج الاجتماعي كان قد طرح في مواقف أخري دون ظلال (16)، وهو يتحول في اللص والكلاب إلي تمرد هائج لنزعة إنسانية كاملة وشبه متصلبة تتخذ المخاتلة والتعزيز موضوعا لهذا وتبحث عن زبدة المشاعر البشرية خارج الإطار الذي حطمته (17).
وعندما تصل العلاقة بين إنتاج نجيب محفوظ «ووسطه الروائي» إلي درجة الوهن الجذري فإن ذلك الإنتاج يظل يحمل قدرا هائلا من الموضوعية علي الأقل في مواجهة كاتبه، ونستطيع من هنا أن نتصور السبب العميق وراء التدقيق والاستقصاء المتتابع الذي أشرنا إليه، وتسهم الشخصيات ذاتها في تحقيق عدالة المؤلف في مواجهة رسم البيئة المادية المحيطة به، وتدرك الشخصيات ذاتها أن مغزاها الحقيقي لا ينبع من انتمائها إلي إطار الجمال الشكلي، وإنما في إطار القيمة المعنوية، وهي بهذا تستطيع الإسهام في خلق نموذج الشخصية الإنسانية، وهنالك من هذه القيم مثلا الشجاعة في مواجهة الحياة اليومية والتقوي، وهذه القضية الرئيسية قضية العودة إلي المنابع ـ وإلي إعطاء التأثير الداخلي للضمير قيما أساسية ـتختفي وراء المظاهر المتواضعة ـ هذه القضية عولجت كذلك هنا بمنهج روائي خالص.
ففي المقام الأول، وعلي عكس بعض القصاصين الذين يكتفون بطرح أفكارهم في قوالب واضحة (19) يبث نجيب محفوظ قضاياه علي امتداد أعماله محولا إياها إلي عناصر روائية خالصة في قالب أخلاقي إقليمي، ولكنه ليس تحت شكل قانون العقد الصريح المعلن، وإنما في شكل قانون العرف الغريزي الحاسم.
ومن ناحية ثانية، فإن أبطال الموقف الروائي الذين توزعهم أعمالهم أو وظائفهم أو مدارسهم أو أنشطتهم في أرجاء القاهرة «الخارجية» يعودون دائما إلي قلب الوسط الذي يعيشون فيه لكي يتلقوا هناك قدرهم الحقيقي، ومن هذه الزاوية تكتسب الثلاثية روعتها(20)، وهنا السياق التاريخي سواء كان مصريا أو أجنبيا أهم أدواره في إنتاج نجيب محفوظ، لكن هذه الأحداث باستثناء أمثلة قليلة (21) سجل من منظور العالم المصغر للحي أو العائلة هنا حي لا يصل ضجيج المدينة الخارجي إلي ممحصا ومصفي حقيقة إلي درجة الخلاصة، وإذن فإن الفارق الهائل الذي يفصل منذ البداية بين نشاطات هتلر وبين الانشغال اليومي لدي طبقة العمال والبورجوازية الصغيرة في القاهرة، يأخذ هنا تنوعا بارزا، فحول هذه المشاكل الصغيرة الرئيسية، قضايا البؤس والسعادة والتقدم تتم من خلال حس البسطاء المواجهة الحقيقية لكل الشعارات السياسية، واكتساب المكانة الاجتماعية، ولسوف يتم تحت هذه الزاوية بصفة رئيسية المواجهة الخفية ومن ثم المواجهة العميقة بين التقاليد والحداثة، حيث تعترف التقاليد أمام الحداثة بقصور وسائلها، لتحقيق السعادة وتعترف الحداثة (22) بقصور وسائلها لبلوغ السعادة والتعقل.
إن أبطال نجيب محفوظ لا يقنعون مع ذلك بالتهوين من التقاليد الأساسية في وسطهم، إنهم يهدمون ذلك الوسط صراحة بما يقدمونه من أفعال مناقضة لتلك القيم.
والتسلل الشعري أو الهروب العنيف نحو وسط آخر أكثر نظافة وبريقا هو النتيجة الطبيعية لذلك الرفض، ووسائل الهروب التي يتبعها نجيب محفوظ هي وسائل نسقية فالتاكسي أو الترام وأحيانا قليلة القطار (23)، يحمل الأحلام نحو المدينة الكبيرة أو مدينة أخري في عمق مصر والدافع للإنسان والهرب ليس مع ذلك كامنا في الوسائل المادية التي تحرم أحد الأحياء من لون الحياة المحيطة به، ولكنه دافع كامن لدي الشخصيات ذاتها، معبأ بقيم رمزية نحو الأماكن أو الأوساط التي لا يعيش فيها المرء حياته العامة، ويتوقع أن يجد فيها ما يحلم به: الحب والمجد والغني. إن شرفات المنازل القديمة في القاهرة التي يمكن من خلالها أن يستوعب في نظرة واحدة السماء والجمال معا.. هذه الشرفات تغدو ممرات بسيطة عابرة، كعبور لحظة الشفق العظيمة التي توزع الظلال هنا علي «الوسط الروائي» بطريقة زخرفية كما قلنا(24)، ويتمثل الهروب في شبرا في الانسلال إلي منزل مجاور يبحث فيه عن تجديد الهواء في واحدة من تلك الفيللات الفخمة لأحد «البكوات» وفي الحديقة المحيطة تتسابق الفتيات علي الدراجات ناسيات في غمرة اللعب أنهن يمكن أن يكن موضع مراقبة (25).
إن الشخصيات الروائية تتحدد إذن هنا - علي الرغم من ظواهر الأشياء - تبعا لمسافتها بالقياس إلي الوسط الروائي (26) وعلاقتها بهذا الوسط ليست علاقة سهلة ولا نمطية يمكن الحكم عليها بالتبعية أو الصراع، وإنما هي علاقة تشبه علاقة القاضي بموضوع الدعوي لا يتكاملان ولا يتعارضان تبعا للحالة، بمقتضي موقف أملوه هم علي أنفسهم بعيدا عن كل تأثير، وبهذا المعني فإن تأثير الوسط البائس الذي يحد من الرغبة في الهيمنة لدي أصغر الإخوة الثلاثة في بداية ونهاية (27) يجيء التعبير عنه دائما في لغة المونولوج حيث تتعادل «مع» و«ضد» وهذا المنهج الذي يجعل من الحوار الذهني جزءا من العرض الروائي دون أن يخل ذلك علي الإطلاق بإيقاع الحركة داخل العمل الروائي هو منهج يؤكد المحتوي الخلقي ويوسع من مجال انتشاره.
وفضلا عن ذلك، فإن الأبطال ليسوا تابعين لشخصية المؤلف، فأسلوب الترجمة الذاتية الذي يخلع كثيرا من مذاقه علي إنتاج توفيق الحكيم أو يحيي حقي لا يوجد في روايات نجيب محفوظ، ولاشك أنه من المعلوم أن طبوغرافية الثلاثية ومشاعر أبطالها الشبان تعكس ذكريات الطفولة والشباب عند نجيب محفوظ لكن النظرة الفاحصة والقول المنصف يعيد إلي هؤلاء الأبطال البعد الحقيقي الشعبي والملحمي لأن الشخصيات المركزية للثلاثية هي من بعض الزوايا شخصيات أبطال ملحمة أكثر من كونها شخصيات أبطال رواية، فهنالك الشعور القدري بأنهم جسدوا أمة وتلك سمة شهيرة لأبطال الملحمة وتلك القابلية لاستيعاب الأحداث، مناقشتها دائما، وفعلها أحيانا، والمعاناة منها قليلا، وهذه الحركة والسلوك المنبعث من حجرة واحدة، المتوج في النهاية بالشعور بالانفرادية ـ هو حدث ذو مغزي حتي بالنسبة لأعضاء جماعة شديدة الاتحاد يأخذون قراراتهم كل علي حدة ـ كل هذه السمات تربط الثلاثية بالعائلة الكبيرة للشخصيات الملحمية أكثر مما تربط بعائلة الأبطال القلقين في الرواية.
إن الأنماط الجسدية التي أصبحت عرفا شديد الشيوع في الملحمة نمط (الثنائيات المتضادة) فهناك الفتاة الجميلة والأخري غير الجميلة وذات الأنف الكبير(28) وهناك الرجال ذوو الطول الفارع والقصار، وهناك الأم النحيفة، والمسنة الممتلئة شبه القعيدة (29).
وروايات نجيب محفوظ تدور كذلك حول بعض اللوحات النمطية النادرة التي تضيف إلي خصائص الخطوط التقليدية خصائص الصفات من خلال الوصف التفصيلي (30) والمحاولة خطيرة، والاستقصاء الملحمي يهدد وينفي الطابع الروائي، لكن موهبة نجيب محفوظ تتلافي هذا النقص من خلال التمييز بين الشخصيات وتوضيح خصائصها من خلال طريق آخر ليس مستعارا من السمات ولا من الخصائص الجسدية المميزة ولكن من خلال الاهتمام بتحقيق الوحدة لهذه المظاهر المختلفة لعطاء شيء واحد اسمه «الشعب المصري» وأبطال الرواية يصبحون كذلك إلي حد ما، انعكاسا من زاوية خاصة لنمط عام يجسده بطل ملحمي وهم يستمدون أصالتهم لا من خصوصية شخصياتهم، ولكن من خصوصية مواقفهم داخل الإطار الذي يضمهم جميعا، إن الشبيبة المصرية مثلا يمثلها عبدالمنعم بقدر ما يمثلها أحمد في «السكرية» وكل منهما يقدم خصائصها الرئيسية ومن ثم صورتها النموذجية لكن الاختيار السياسي والعقائدي يضع بين الأخوين خط التفرقة، وانطلاقا منه تتباعد مواقفهما في الحياة الواقعية، ومن خلال المنحني الذي رسمه ذلك الاختلاف توجد الحقيقة الروائية المتعددة الأوجه.
هذه الشخصيات ملحمية لأنها جميعا نماذج لمجموعة إنسانية وروائية واحدة في إطار أنها لا تقدم إلا جانبا واحدا، وهذه الشخصيات إن لم يوجد فيها تلاؤم مع السمات الروائية والأبطال هنا، كل منهم يرمز إلي فئة محددة بعناية، ويؤكد البطل المتحدث باسمها ملامحها الخاصة ويربطها بالفئات الأخري من خلال النمط الكلاسيكي لحركة التآلف والتضاد فينشأ الموقف الروائي الذي يتم غالبا من خلال اللجوء إلي الخصائص النفسية الفردية، وهنا بالتأكيد تكمن أهم ملامح الأصالة في إنتاج نجيب محفوظ، فهذه الشخصيات «حية»، لكنها كذلك «نماذج» وانعكاساتها النفسية موجودة ومن خلالها يوجد الموقف الروائي لكنها كذلك تعود وبطريقة شبه آلية إلي طبيعة انعكاسات الطبقة أو الاتجاه الذي يعد كل منهم في فلكه الخاص ممثلا له.
إن أنماط الشخصية الاجتماعية هي بطبيعة الحال أكثر الشخصيات تحديدا وأقربها إلي الشخصيات الرئيسية، وهذه الشخصيات تبقي في النهاية محدودة جدا.
فهناك أولا شخصية «التاجر» وأكثر منها ورودا شخصية «الموظف» فشخصية «المومس» وأخيرا شخصية «الطالب» التي تأتي في قمة الشخصيات الرئيسية.
وهذا التدرج الذي أوردناه لا يهمنا علي مستوي الخريطة الاجتماعية فليس هذا موضوعنا كما قلنا، وإنما هو تدرج علي مستوي توزيع الأدوار في مجال الحبكة الروائية، ومن وجهة النظر هذه فإن شخصية «التاجر» إذن هي أقل الشخصيات أداء لهذه المهمة، وعلي حسب علمي، فالثلاثية وحدها هي التي قدمت من خلال شخصية الأب نموذجا لشخصية رئيسية تنتمي إلي هذا النمط، شخصية الأب مع أنها لا تقارن بها من حيث الأهمية شخصية الأم، فإنها تختصر إلي تجسيد قوة جمود تسندها التقاليد ومهمتها تبعا للظروف، إيقاف أو تعطيل مبادرات الآخرين.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:13
أما شخصية الموظف فإنها أكثر تعقيدا ووظيفته تضعه في محور المشاكل السياسية ذاتها، والتغيرات الكبيرة في نظم الدولة تجعل منه رمزا للرجل الذي تجاوزته الأحداث والاهتمامات، و«السمان والخريف» هي النمط الشهير لهذا الموقف بطلها المتنازع بين الخيانة والمودة، وبين خطيبة قديمة ذات حسب ولكنها غير وفية، وزوجة وفية ولكنها غير جميلة ومنحدرة من وسط متواضع بين القاهرة الثائرة والإسكندرية النائمة، بين التقاليد والتطور «شخصية حائرة» ضاعت في طي صفحة قلبت بالمصادفة وراحت في مجهول لا نهائي لكنها شخصية روائية ممتازة تلخص في آن واحد قلق الذات المفردة وقلق الفئة الاجتماعية التي تمثلها.
من خلال الأنماط الثلاثة للبغايا، تبدو لنا بعض الفروق الدقيقة، فإذا كانت الفتاة ذات القلب الكبير تبدو لنا نمطية إلي حد ما في «السمان والخريف» أو «اللص» فإن تصوير بداية احتراف البغاء يحمل مزيدا من السمات الدقيقة، فقد تكون لحظة السقوط نتيجة للحظة ضعف معنوية بسيطة كما هو الشأن مع حميدة في «زقاق المدق»، لكن البغاء في معظم الأحايين يبدو صورة حادة ومؤلمة، للبغاء الاجتماعي القاسي وشخصية «نفيسة» في «بداية ونهاية» هي بالتأكيد أقوي بطلات نجيب محفوظ صلابة وعزما فهي تندفع مقهورة بتعاسة المرأة بالسلاح الوحيد الذي يسمح لها بأن تبقي بالحياة السرية، وعلي وجه التحديد عندما ينكشف ذلك السلاح فإن المجتمع ممثلا في صوت أخيها، سوف يلحق بها الموت وعلي وجه التحديد أيضا وبطريقة غير مباشرة فإنها عندما تخلد إلي صمتها مع الموت، سوف تنتصر في النهاية وتستطيع أن تصدر إدانتها علي ذلك المجتمع الرجالي المتحكم متمثلة في انتحار أخيها، ومع ذلك فإن شخصية نفيسة تظل حالة محصورة. وتبقي الشخصية المفضلة عند نجيب محفوظ، وهي شخصية الطالب (31)، وربما كانت ملامحها محدودة، تتمثل في الشباب والتمرد والحزن، وهي عناصر أساسية في تحريك الحدث الروائي، ولكن هذه الشخصية تحمل في طياتها أيضا وبطريقة دقيقة، ملامح شخصيات تنتمي إلي فئات اجتماعية أخري، سواء كان ذلك من خلال إثارة ذكريات وقعت لأحد نماذجها(32) أو أحداث كان ينبغي أن يتوقف حدوثها(33) وحتي في النهاية من خلال اللوم العنيف الذي يحدث لهذه الشخصيات من الأب أو من المجتمع، هذا اللوم، لأن هذه الفئات الأخيرة لم تتعلم علي الإطلاق (34). من هنا يأتي الإلحاح المستمر والرئيسي في كل أعمال نجيب محفوظ علي أهمية الثقافة.
من خلال الخصال أو الخواص المحددة لأبطال الإنتاج الروائي، يحمل الإنتاج بالضرورة مغزي ورسالة خاصة أن الفئات التي تندرج في ذلك التصنيف أكثر من الفئات التي تندرج تحت التصنيف (المعنوي)، وهو تصنيف تلتقي فئاته في معظم الأحايين مع الفئات التي حددناها آنفا. أما الفئات المندرجة تحت (الخصال أو الخواص المحددة) فهي محصورة بدقة، فهناك الطموحون والمتمردون والخاملون والعقلاء، وكل فئة تحتل موقعها تبعا للنظام الاجتماعي الذي تعيش في إطاره، وتبعا لما إذا كانوا يخضعونه لإرادتهم أو ينكرونه أو يعانونه أو ينهضون بأعبائه.
وإذن، فالشخصية الروائية التي نستطيع أن نحاصرها في مجملها بدءًا من الآن هي حزمة من الخصائص ناتجة من انتمائها إلي فئتين متشابكتين إحداهما اجتماعية والأخري معنوية أو خلقية، وتخصيص كل واحدة من هاتين الفئتين عن طريق الأخري وتعدد إمكانية التناسق التي يولدها ذلك التشابك، هما في النهاية مصدر تميز الحالة الفنية لشخصيات نجيب محفوظ والتي حلت محل الشخصيات الأكثر تقليدية في الفن الروائي، وهي شخصيات التحليل النفسي للذات المفردة.
هل يلعب الزمن دورا محددا في ملامح شخصيات نجيب محفوظ؟
لنسجل أولا أن ألوان الزمن عند نجيب محفوظ شديدة التنوع والاختلاف بدءًا من المسيرة العائلية الكبيرة التي تمتد عشرات السنين حتي الرواية التي تنكشف في بضعة أيام وحتي في بضع ساعات وملامح الزمن التي هي بالتأكيد أحد الاهتمامات الرئيسية لذلك الكاتب، تبدو من النظرة الأولي ذات علاقة مباشرة مع عدد الشخصيات والأبطال الذين يدور بينهم الحدث الروائي. وتبلغ نقطة الاستقصاء إذن مداها مع «اللص والكلاب»، حيث يوجد بطل واحد يتخذ تحت ضغط الحوادث القاطعة في عدة ساعات قراراته الرئيسية، ومع ذلك فإنه يمكن بصفة عامة أن تجد لونا من ثبات النسبة بين الزمن الحقيقي والزمن الداخلي لهذه الشخصيات، وفي الحقيقة فأيا ما كان مقدار الزمن الذي تحياه هذه الشخصيات أمامنا، فإن اختيار الزمن هنا يتعلق دائما بلحظات فريدة في رحلة الوجود، سواء كانت منعطفا في سن النضج، أو كانت سنوات المراهقة وفي كل الحالات، رغم اختلافات الزمن الخارجي، فإن هنالك شريحة من الحياة تؤخذ في لحظة رئيسية ترتبط بها وتستلزم إجابة منها. وفي كلمة مختصرة، فإن كل ذلك يعني بالنسبة للإنسان الذي وجد علي هذا النحو لحظة الميلاد ولحظة الموت.
إن من الخطأ دون شك الحديث هنا عن «شخصيات بلا ماض» مع أن أبطال نجيب محفوظ يأخذون به مواقفهم في مواجهة الأوساط المحيطة بهم، وفيما يتعلق بالشخصيات التي يمكن أن تأخذ خصائص الشخصيات الرئيسية فإن من المسلم به أن الماضي لا يلعب دورا مهما في المواقف التي ينبغي اتخاذها إزاء الأحداث الفاصلة فهم يعيشون داخل لحظتهم، والسمة الروائية للزمن هنا تبدو في مظهر سلسلة من اللحظة ذات الدلالة الخاصة.
أما الشخصية الثانوية، فإن لها بالتأكيد ماضيها داخليا، ولكن لا يبدو أمامنا من هذا الماضي إلا ما يؤثر بطريقة رئيسية علي مواقفهم، فاللحظة الزمنية تحتفظ دائما بطابع الجدة غير القابلة للتقادم وتربطها ردود الأفعال بسلسلة الطارئ غير المتوقع، حتي بطل «اللص والكلاب»، عندما يلجأ إلي الماضي، لكي يفسر تصرفاته التي سبقت دخوله السجن لا يفعل إلا أن يثير مجموعة من الأحداث، هي التي صنعت واقعه الآن، ولكنه لا يفسر الاتجاه الرئيسي لشخصيته، فهو لم يولد سفاحا، والإحالة لفترة من الزمن، ماضية، بالقياس إلي زمن الحديث الروائي لا تغير إذن، طبيعة ذلك الماضي ذاتها، التي تكونت هنا، بصفة أساسية، من خلال الظروف، وليس من خلال الاختيار الواعي، أو اللاواعي للشخصية.
وهذه النقطة، شأن كل ملامح إنتاج نجيب محفوظ، ترتبط بمفهوم تطوري زمني، فلا تعود حياة البطل، إلي نقطة البدء، ففي «السمان والخريف»، حيث يجري أقل قدر من الأحداث علي المستوي الخارجي، لا يصبح التساؤل: هل سيبقي الموظف أم يعزل، ولكن هل سيستطيع في هذا الموقف، مواجهة الإنسان الجديد الذي تكون داخله علي المستوي الاجتماعي، وتلك النهاية التي سوف تذيبه بصفة قاطعة داخل الليل تحمل معها الإجابة، فالموظف المعزول، الذي يحتفظ مع ذلك احتفاظا كاملا، بفرصته كاملة في التعرف علي الحياة الجديدة، يتحول إلي هيكل رخو أشل موعود فيما يبدو بالأقدار المحورة.
وأقصي نقاط التطور الزمني في معاناة البطل، هي في معظم الحالات، الموت المعنوي، أو الجسدي حيث يموت الشخص، أو تموت شخصيته، ومن هنا يأخذ إنتاج نجيب محفوظ طابعا إن لم يكن هو طابع التشاؤم الأساسي، فإنه علي الأقل طابع واضح وعميق. يتمثل في نوع النجاح الذي سجله أبطاله، هؤلاء الأبطال الذين يتسمون بصلابة، وشجاعة في مواجهة الحياة اليومية، دون أن يتحقق لهم مطلقا النجاح السهل وعلي مستوي البناء الفني الروائي، فإن هذا «الحضور» للموت وذلك الشعور، بوجود التطور الزمني، الذي لا يدعي أبدا مجالا لثبات «السعادة» يعطيان للإنتاج الفني هنا، واحدا من أهم ملامح أصالته ذلك أن الأبطال، كما رأينا في ارتباطهم الشديد بحركة الزمن التي لا تدعهم يستريحون، ولا يلتقطون أنفاسهم وحيث لا يلتقي أحدهم بماضيه لا يأملون في شيء من تلك المغامرة التي يشدون إليها فتحسين في بداية ونهاية يحقق أحلامه شيئا فشيئا من خلال إرادته ومعاونة الآخرين له، ولكنه يفقد هذه الخاصية التي بفضلها تتحقق الأحلام بصفة رئيسية، وهي الثقة في كل شيء، وكلما زاد نجاحه قل اعتقاده في هذا النجاح، وذلك لأنه يزداد وضوحا له، إنه مع ذلك النجاح وحيد ومنعزل وأن الأحداث في الحقيقة تسحقه. ولا شك أننا نلمح من هنا ومن هناك، ومن خلال «دردشة» الطلاب علي نحو خاص، وعود المستقبل، ولكن هذه الأحداث تـظل علي مستوي الحدث الروائي أحلاما، لا تنجح في تظليل فجاجة الحاضر والمستقبل القريب.
نستطيع إذن في هذا المجال، وفيما يختص بالإجابة علي السؤال الذي طرحناه من قبل أن نقول: إن الزمن يعد هنا عنصرًا أساسيا من عناصر التكوين النفسي للشخصيات، وهو لا يدع لهذه الشخصيات إلا أحد خيارين: الموافقة أو الرفض لتطور يقودهم نحو المستقبل، يبدو أن الصراع والسقوط والموت هي أكثر معطياته ثباتا.
إن الزمن الروائي إذن يعد هنا مظهرا من مظاهر القدرية والحتمية، لكن تحقيق ذلك لا يتم دفعة واحدة، والأبطال لا يصلون إلي لحظة التغيير، إلا بعد سلسلة من الأطوار، يتلقون خلالها تأثير الحدث الرئيسي، وتأثير الحدث الذي يكون عقدة الرواية ذاتها كما رأينا، والزمن كذلك محصور حول عدد من المشاهد الرئيسية التي تبدو وكأنها النبضات الكبيرة للإنتاج والتي تبدو وكأنها مستلهمة من قرب من طريقة التجزيء في الفن السينمائي واللقطات السينمائية المتتالية إذا استطعنا أن نستعيد هذا المصطلح هنا وهي محددة علي نحو خاص في اللص والكلاب، ذلك لأنها مميزة من خلال اللقاءات سواء كانت ودية أو عدائية، بين الأبطال، وشخصيات حياتهم الماضية. وذلك التكتيك الذي يهب الرواية جزءا كبيرا من حياتها يتأكد من خلال فن الحوار.
إن طريقة السرد المباشر والتي تظهر في مجمل الإنتاج، تلعب هنا دورا رئيسيا، فهناك ومن خلال الربط الذي يتم بين الشخصيات المختلفة، وردود الأفعال الناجمة عنه، يتحقق في الواقع تطور الرواية. وإن لم يبلغ المؤلف في ذلك براعة روائيين آخرين.
لكن نجيب محفوظ يحقق ذلك التطور، من خلال أجزاء الحوار، التي تتلاقي تقسيماتها غالبا من تقسيم الفقرات، ويحمل كل منها نصيبه من اللبنات التي يسهم بها في البناء الروائي، فهنالك القليل من الأحاديث النظرية، والقليل من الموضوعات المطروحة، ولكن هنالك الديالوج الشديد الحيوية، حيث يستطيع الأبطال أن يعوضوا بدقة من خلال أنغام إنسانية، ما يمكن أن تقدمه مواقعهم الخاصة، بانتماءاتها إلي شريحة ما اجتماعية أو خلقية من تصرفات تخالف المألوف.
هذه الوسائل في معالجة الزمن الروائي، والقائمة علي اختيار لحظة ذات أهمية خاصة، وأبطال يتجهون إليها بصفة أساسية، وقيمة قدرية تمارس تأثيرها من خلال موجات متتالية، هي وسائل كثيرة التردد في روايات نجيب محفوظ، وهي وسائل تتناسي الفروق الظاهرية إلي حد ما والتي يتميز بها الزمن الخارجي والصدفوي الذي يغطي مجمل الحدث الروائي، ويتركز الزمن الخارجي فيما يبدو، في مجموعة صغيرة من الشخصيات المرتبطة بالحدث.
إن رواية نجيب محفوظ تقدم دون جدل للأدب العربي الحديث، صوتا جديدا من خلال أبعادها، ومن تلك المقدرة الممتعة علي الكتابة التي يحس بها المرء عند مؤلفها الذي حرر الأدب العربي في هذا المجال من دورانه فقط في المحور القصصي، لقد أنهت أعمال نجيب محفوظ نجاح «عصر» المحاكاة والتقليد الذي كانت الرواية العربية متعلقة خلاله تعلقا غير محمود بهياكل تلقيدية محلية أو أجنبية. إن المرء يجد نفسه هنا حقيقة مشغولا برواية مصرية تهيئ قدرا غير محدودمن المتعة النادرة، وهي متعة نجدها حتي بعد أن نظن أننا استفدنا ألوان المتعة الكامنة في لون فني معين فإذا بنا نكتشف فجأة زهرة جديدة غير متوقعة.
ومع ذلك، فإن هذه ليست القيمة الوحيدة لروايات نجيب محفوظ، فدون أن نتحدث عن الفائدة التي يمكن أن يقدمها إنتاج نجيب محفوظ في حقل تاريخ الأفكار الاجتماعية، أو تاريخ اللغة العربية، فإن هذا الإنتاج يمكن أن يقارن بالإنتاج الروائي الآخر خارج إطار الأدب العربي، وهنا ينبغي أن يتم التناول والحكم المنهجي.
إن روايات نجيب محفوظ ليست بالتأكيد من طراز «رواية منتصف الليل» ولا تمسها اهتمامات بعض الاتجاهات الجمالية المعاصرة إلا قليلا فعلي مستوي التصور الفني للرواية، يظل نجيب محفوظ مرتبطا بالمدرسة الكلاسيكية التي تعد الرواية عندها التعبير الأدبي عن مغامرة إنسانية معادا ترتيبها داخل سياقاتها الزمنية والمادية والنفسية. وإذا أردنا أن نحدد جانب الأصالة الذي يحتل بسببه إنتاج نجيب محفوظ مكانة في التاريخ العام للرواية، فإنه بالتأكيد ليس راجعا لا إلي معالجة الزمان ولا إلي معالجة المكان وقد تحدثنا عن ذلك، ولكن الأصالة بالتأكيد راجعة إلي طريقة تقديم الشخصيات، وهنا يكمن في رأيي النجاح الرئيسي لنجيب محفوظ، هذا الاعتدال المتزن بين الوفاء بالملامح الفردية الضرورية للرواية، وبين نموذجية الأبطال المنتمين إلي حقبة تاريخية وطنية يراد تقديمها، وهذه الدراسة لشعب بأكمله من خلال بعض الشخصيات التي تقف في منتصف الطريق بين الأصالة الروائية والتمتمة الملحمية، تحقق دون أدني قدر من الشك معني كون الإنسان يعيش عصره.
ولسوف يكون من شأن عالم الاجتماع في وقت لاحق، الحكم علي ما إذا كان طموح نجيب محفوظ قد استطاع أن يجعل ألوان الوعي الوطني تتلاقي في داخل إنتاج فني لكن الناقد الأدبي يستطيع من الآن أن يقول: إن هذا الوعي الذي اضطلعت به عبقرية نجيب محفوظ، قد أعطي إنتاجه أصالة رئيسية في إطار الأدب العربي، وحتي في إطار الرواية العالمية.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:16
البطولة الرواقية في الروايات الواقعية
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
عند توماس هاردي ونجيب محفوظ
دراسة الدكتورة كلارا براندابور
تلخيص وترجمة: أيمن فواد رضوان
سادت لدي الإغريق نظرية في سيطرة العقل علي العواطف والانفعالات، فنجد في «إليازة» هوميروس ـ والتي أثرت بشكل جوهري في محاورات أفلاطون ونظرية أرسطو في الأخلاق ـ حكاية عن غضب أخيلس Achilles، كمثال لمحاولة تفادي الغضب والسيطرة عليه، وفي هذه الملحمة اجتهد هوميروس من أجل تبيان ذلك الخيط الرفيع، والذي يعبر عن رؤيته لانحدار حضارة اليونان بعد حروب طروادة، وما سببته من فوضي، وخروج الانفعالات من سيطرة العقل عليها في سلوك اليونانيين.
وعلي مر تاريخ الفلسفة بكل مذاهبه المتعددة، ومناهجه الثرية كان هناك مذهب حاول اكتساب واسترجاع تلك السيطرة العقلية في مجال الانفعال والسلوك بشكل عام، وهو المذهب الرواقي «stoicism»(1)
لقد أصبحت مهتمة منذ سنوات عديدة بالروائي «توماس هاردي» وطريقة رسمه للشخصيات داخل رواياته، تلك الطريقة التي تمثل طرازا فريدا في التعامل مع كل ثراء تلك الشخصيات المتعدد والمتغير، ولسوف نحاول التدليل علي أن توماس هاردي قد تأثر بالنموذج الرواقي في رسم أبطاله، بل كان يوظف بوعي هذا النموذج داخل رواياته، خاصة من الفترة التي تمتد منذ عام 1874 الذي ظهرت فيه الطبعة الأولي لروايته «بعيدا عن الجماهير الغاضبة» Far From Madding Crowd»، وحتي عام 1895 الذي ظهرت فيه روايته جودي المغمورة Jude The Obscure، وكذلك يتضح ذلك النموذج الرواقي من خلال رسائله ومذكراته في تلك الفترة، مما يؤكد أن حيازته لهذا المفهوم الأخلاقي واضحة منذ بداية الفترة، وتمثلها الروايات خير تمثيل، وربما تسبب ذلك في انتقادات عديدة من النقاد مثل فورستر E.M.Forsterالذي أكد أن حبكة الرواية عند توماس هاردي تحتوي علي حتمية مفرطة خاصة في رواياته الأخيرة، لكن لو نظرنا لآخر خمس روايات كتبها هاردي متأثرا بالنموذج الرواقي الخلقي، فسرعان ما نلاحظ إخفاق أبطاله في بعض الأحيان، كما كان يخفق الرواقيون من قبل، ولكننا سنجد بعض الشخصيات الأخري التي تمثل النموذج الرواقي خير تمثّل، مثل Michael Henchard الذي احتل مقدمة رواية عمدة كاستر بريدج The Mayor Of Caster Bridge بكل تراكمه التراجيدي بينما اليزابيث جين Elizabeth Jane تلك الفتاة الوديعة ذات النسب المشكوك فيه كانت تعلم نفسها اللغة اللاتينية، واكتسبت الفضيلة «الرواقية» بذاتها.
أما عن أكثر الشخصيات تمثلا للنموذج الرواقي في الحياة، فكان بلا شك «جابريل أويك» Gabrial Oak الذي كان علامة مميزة في كل أعمال توماس هاردي ذلك الشخص الذي صبر علي فقدانه لكل ثروته، ورفض محبوبته لعرض الزواج منه.
ولكن في النهاية تعود له ثروته وينال حب فتاته (2) بينما هناك شخصيات أخري أكثر مأساوية رسمها «هاري» مثل «Eustacia Vye» في رواية «Return of The Native» وجودي Jude في الرواية العظيمة «جودي الغامضة» «Jude The Obscure».. هذه الشخصيات التي اتجهت نحو تدمير ذاتها، بسبب إخفاقها في وضع حدود لرغباتها وانفعالها في العالم الواقعي، ويمكن أن نقول: فشلوا في السيطرة علي انفعالاتهم عن طريق العقل كما يعلمنا التقليد الرواقي.
عندما بدأت قراءة أعمال نجيب محفوظ الواقعية لاحظت علي الفور حضور ذلك النموذج الرواقي في العديد من شخصيات نجيب محفوظ الروائية، كما لاحظت التماثل في بناء شخصياته مع بناء شخصيات توماس هاري، فنجد أمينة ـ الأم والزوج في ثلاثية نجيب محفوظ ـ تلك الشخصية المهمة ذات الدلائل الفسيحة والرحبة، وإن كان ما بدا لي أكثر أهمية ـ ليس مجرد احتجازها في المنزل، ولا تضاؤل حقوقها، وتقديمها فروض الطاعة والولاء للسيد أحمد عبدالجواد ومعاقبته لها بوحشية.. الأمر الأكثر أهمية في شخصيتها في ظل تلك الظروف المحددة والمعوقة لها هو امتلاكها تلك الحرية الداخلية، والتواؤم الطريف مع كل القوانين الحتمية التي تحكم حياتها.
هذه الفتاة الخجول التي تزوجت السيد أحمد عبدالجواد وهي لم تتعد الخامسة عشرة عاما تلك الفتاة التي تقاربت بشكل رائع مع الجن الذي ظنت أنه يسكن البيت القديم، كنوع رواقي في السلوك تتجاوز به مخاوفها وتتعلم بذاتها كيف تصنع من عزلتها شيئا بديعا.
وبالمثل مع «حسين» الأخ الأوسط في رواية «بداية ونهاية» هذا الشاب اليافع الطموح الذي كان يريد استكمال دراسته، لكنه أحبط بعد أن علم حالة عائلته المادية، فلم يرض الانسحاب من أحلامه فقط والاستسلام للقدر بل حاول أن يعدل من أهدافه النبيلة، فعمل في وظيفة بسيطة في محافظة بعيدة، وأكد لنفسه أنه بذلك يمهد الطريق لأخيه الأصغر، ويساعد أمه علي تكاليف الحياة، وحتي عندما حانت له فرصة الزواج وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، تأتي أمه علي ميعاد ـ كأنها علي لسان حال القدر ـ لتذكره بضرورة بذل جهد أكبر لتدعيم حالة عائلته ماليا.
وفي زمرة الأحداث بعد أن يغرر أخوه الأصغر بابنة الجار القديم يظهر حسين ليصلح خطأ أخيه ويتقدم لزواج الفتاة ويحفظ ماء وجه العائلتين.
لاحظ هنا العامل المشترك بين «أمينة» و «حسين» هو تلك البساطة والبهجة الداخلية التي تتعامل مع ظروف صعبة بالفعل، ويتوقع القارئ منها السخط والشراسة والكآبة.
من أهداف هذه الدراسة تبيان أوجه التماثل بين العديد من شخصيات الرواية الواقعية عند توماس هاردي ونجيب محفوظ، كما تهدف إلي تحليل المبادئ الأخلاقية والتي علي أساسها نستطيع تفسير سلوك هذه الشخصيات، وكذلك معرفة جماليات وقيمة هذه الشخصيات، كذلك نحاول تفسير ذلك الرنين الهارموني Harmonic resonances الذي يسمعه القارئ بوضوح بعد قراءة أعمالهما.
ذلك الرنين المتآلف الذي تكلم عنه E.M.Forster في تحليله الأخير لرواية «الحرب والسلام» لتولستوي قائلا:
«بعد أن يقرأ أحدنا رواية الحرب والسلام يبدأ علي الفور في سماع تآلفات جميلة، وإن كان لا يعرف مصدرها بالتحديد هل هو الحكاية ذاتها.. لا أظن ذلك، ولا أحداث الرواية، ولا شخصيات الرواية، إن هذه التآلفات تأتي من المساحة الواسعة والممتدة لروسيا، تأتي من فوق كل الأحداث والشخصيات، تتدفق من مجموع الجسور والأنهار الثلجية، الغابات والطرق، الحدائق والحقول، كل ذلك يتراكم بجلال وفخامة بعد أن نمر نحن عليه..
إن المكان هو بطل الحرب والسلام وليس الزمان (3)
وتهدف كذلك الدراسة إلي الوقوف علي تلك التآلفات التي تكلم عنها «forster» عن الروايات الواقعية عند توماس هاردي ونجيب محفوظ.. هذه الأصوات التي نسمعها من خلال صراع شخصيات الرواية من أجل الحياة، ولنذكركم بما قاله «أرسطو» في كتاب الشعر: «إن المشاهدين لا يستمتعون برؤية أبطال أشرار تتم مكافأتهم، ولا رؤية أبطال خيرين بالفعل تتم معاقبتهم..» إن التراجيديا في الأساس تتكلم عن بطل خير يؤمن بإمكانية انتصاره علي الفاسد في طبيعته، إنه البطل الذي يعاني من أخطائه المخلة بتوازنه الطبيعي والنفسي.
وفي حالة توماس هاردي ونجيب محفوظ فنجد أبطالها طيبين، لكنهم يعانون ظروفا غير عادلة أو مألوفة أكثر من شخصيات الرواية الأخري، وفي بعض الأحيان نجد أن الشخصية الأكثر جمالا والحائزة علي كل الإعجاب هي تلك التي تعاني وتقاسي، ثم تنتصر دون أن تكون بؤرة الاهتمام مثل الزهور الجبلية التي تولد وتنمو وتتفتح وتذهب رائحتها دون أن يراها أحد.
وأعتقد أن التآلفات الكبري والتي تبدأ في السماع داخل وفي ـ أو حتي لا وعي ـ القارئ لأعمال هاردي ومحفوظ في الأساس تآلف وصدي يتخبط ومع التفاعل الحادث بين قوي الخير والشر، الجبر والاختيار في نسيج خصب تمثله الرواية بعمق إنساني رائع، ولسوف أؤكد ذلك عن طريق دمج هذه التآلفات بفكرة البطل الرواقي، مما يجعل من هاردي ومحفوظ يبحثان بنفس المبادئ علي الرغم من التنوع والمغايرة.
ونؤكد بتلك الدراسة أن أوليات المبادئ الرواقية والتي نجدها في شخصيات هاردي ومحفوظ هي كالآتي:
1ـ سيادة الحياة الداخلية للعقل، والذي يهذب الانفعالات، ويحقق بذلك السعادة.
2ـ عدم أهمية العوامل الخارجية مثل الجاه والمال في تحقيق السعادة.
3ـ الإيمان بتناغم العالم والكون بحيث يجب علي الإنسان أن يكافح من أجل الحياة، فلا شيء يحكم مسيرة أفعاله.
4- أخيرا علي المرء أن يعيش يومه كما لو كان آخر أيامه علي الرغم من اتساع الزمان اللانهائي.
كيفية التأثر بالنموذج الرواقي:
لا تهدف الدراسة أن تركز علي متابعة تأثر هاردي ومحفوظ بالفلسفة الرواقية، حيث إن التقليد الرواقي قد تغلغل عبر تدفق الحضارات والثقافات المؤسسة لأفكار هاردي ومحفوظ، فلقد مثلت الرواقية مثلثا خلقيا وعقائديا مع مدرسة «سينكا» والمذهب الأبيقوري، وإن كانت الرواقية اتخذت موقعا أكثر سيطرة من المذاهب الأخري، وكانت ـ الرواقية ـ هي التيار الأساسي لكل التعاليم الأخلاقية في الشرق، كما هو الأمر ـ إن لم يكن أكثر ـ في الغرب.
فلقد أكد سينكا أن كل الرغبات الإنسانية تهلك أو يتم إحباطها وعلي الإنسان الحكيم أن يضع حدودا لرغباته ـ كلما أمكن ـ وذلك عن طريق إيمانه بالأشياء التي بها يتجنب الألم، والأبيقوريون أكدوا تجنب الإفراط، وأن السعادة تحصل عن طريق كبح جماح الغرائز بقدر الإمكان، بل إن «أرسطو» نفسه أشار إلي أن السعادة الحقة هي نتاج التدريب علي العفة والإنسان يصبح معتدلا إذا تصرف باعتدال، ويصبح شجاعا إذا تصرف بشجاعة.(4)
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:17
وفي الثقافة العربية توجد نماذج عديدة لهذا التيار الأخلاقي، فنجد أبوبكر الرازي 841 ـ 926 وابن سينا 980 ـ 1037 اثنين من أكبر المدرسين في العصر الوسيط العربي في العلم والفلسفة، ونلاحظ في أعمالهما مدي التأثر بأعمال أرسطو خاصة الأخلاق والطبيعة، فالعالم الطبيعي الروحاني عند الرازي يقدم لنا التقليد اليوناني في تهذيبب الانفعالات بواسطة العقل، فقدم لنا رؤيته التي تتطابق مع المصطلح الغربي «puritanism» الذي يعني التطهر والتحكم في النفس (5).
أما ابن سينا فله رسالة حول «اكتساب السعادة» تتناول موضوع التعاليم الأخلاقية كما كانت عند أفلاطون وأرسطو (6)، مما لا يدهشنا عندما نعثر علي هذه التقاليد في كتابات نجيب محفوظ، وتوماس هاردي، فلقد كانا واعيين باستخدامهما هذه التقاليد الفلسفية العريقة سواء عند اليونان أو حتي عند فلاسفة العصور الوسطي المسيحي والمسلم.
البطولة الرواقية في الروايات الواقعية عند توماس هاردي بعيدا عن الجماهير الغاضبة نموذج:
يحكي عن «زينون الكتيومي» أنه كان تاجرا ثريا، استثمر كل ثروته في رحلة واحدة، فلقيت سفينته الهلاك في عرض البحر، فخسر كل ثروته، وقابل زينون فيلسوفا يتبع تعاليم «سينكا» الذي أقنعه بأن السعادة الإنسانية لا تحصل عن طريق المال أو الصيت، وعندما نلاحظ علي الفور جابريل أويك Gabriel Oak بطل الرواية سنجد نفس الحدث، وهو فقدان جابريل لثروته بعد أن وضع كل ماله بل اقترض كذلك، وعندما تلقي الخبر أصبح وجهه شاحبا، جحظت عيناه أكثر فأكثر، وبدا مزاجه أكثر حزنا» لقد مر خلال شقاء وبؤس الحدث الذي أضاف إليه في الحقيقة أكثر مما أخذ منه.. (7)
ومنذ تلك الحادثة التي تفتح لنا باب الرواية أصبحت شخصية جابريل تشحذ كل التمثلات الرواقية، فتعلم كيف يكون صبورا، وكيف يحب بلا مطالب.. مؤمن علي الرغم من معاناته بإمكانية الخلاص.. واضعا حكمته موضع الفعل.. (8)
في السنوات التالية لفقدان ثروته ومركزه المستقل اجتماعيا عمل جابريل في وظيفة مهينة له وهي الرعي، ثم يعرض حبه علي فتاة، فترفض ذلك الحب، فتلك المهانة التي تحملها جابريل بصبر عظيم، وجد في الوقت نفسه، إمكانية للبهجة لأنه لم يكن متزوجا لتلك الفتاة التي يحبها حينما فقد ثروته متأكدا أنه كان سيصبح موقفا صعبا لها أن تتحمل تلك المعاناة.
وخلال تعقيدات الأحداث تكتشف الفتاة BAthsheba حبيبة جابريل أنه لا يوجد أحد ودود ومريح وصديق أكثر من جابريل، فهو ليس أنانيا، ولا يرغب فيها بسوء نية مثل الآخرين.
إن الأمانة الصريحة والواضحة لشخصية جابريل كانت ثابتة في أي موضوع وحدث يدخل فيه، حتي في حب معشوقته أو زواجها برجل آخر، ظل متمسكا بسلوكه وصبره في الأجزاء الأخيرة من الرواية، نجد باتشيبا Bathsheba تعيد النظر في عرض جابريل للزواج منه.. «لقد وجدت فجأة لديها رغبة قوية في الحديث مع شخص ما قوي منها، فكيف لها أن تجد مثل ذلك الشخص؟ لايوجد في المنزل.. بعد فترة وجدت ذلك الشخص الذي تراه منذ فترة ولم تنتبه إلي مكانته لديها أنه «جايريل أويك»
أتذهب إليه؟ إنه أمر صعب... أي طريق سلكه «أويك» ـ تسأل نفسها ـ في تحمل تعاسته؟
إن رواقية جابريل واضحة منذ البداية في تواؤمه مع كل التعاسات والبؤس، وتظهر السعادة الحقيقية عندما تعود إليه محبوبته وثروته، لقد تزوج جابريل بدافع الرغبة العميقة والمدلل عليها بذلك النوع من السلوك العشق الذي لا يموت.
البطولة الرواقية في الروايات الواقعية
عند نجيب محفوظ
«بداية ونهاية» نموذجا:
نلاحظ علي الفور منذ «بدايات» الرواية تلك الظروف الاجتماعية التي تصنع من أربعة أبناء نماذج متباينة أشد التباين، ثم نري جدلية الطبيعة والتنشئة الاجتماعية تقع في بؤرة الرواية.. هذه الجدلية التي تبدو غير محسوسة بشكل نهائي.
فتأثير الأب علي «حسن» مثلا واضح في رفضه للتعليم أو حتي العمل، فلقد تم إفساده بواسطة أبيه، بينما حسين وحسنين تمت تربيتهما في ظروف مختلفة علي يد والدتهما تلك الأم الغريبة فهي بلاشك تمثل جزءا من الظروف الحتمية لأولادها وربما ذلك يعطينا تفسيرا معقولا لاختلاف حسن عن أخويه حسنين وحسين.
إن الشخصية محل الدراسة هنا هي «حسين» الذي رسمه محفوظ كما لو كان أحد العارفين للمتعة الداخلية، هذا النوع من السعادة ـ التي وصفها أرسطو من قبل ـ كدليل علي الطريق العقلي الذي تسلكه عواطفه، فيقول حسين في جملة مهمة إنه يتمتع بنوع من البهجة المذهلة عندما يري نفسه ليس فقط ككائن يتعذب، ويعاني، بل يري نفسه كمثال أو ممثل لكل البشر التعساء قائلا: أنا لست إنسانا مستضعفا بل أنا أمثل كل البشر المستضعفين. وتتحرك الرواية نحو أقصي الأبعاد تراجيدية ويتمثل حسين أحد قناعات الرواقية: عندما تسوء الأوضاع ويدخل في الآلام التعسة والنهائية، فيذكر نفسه علي الفور «إن ذلك لابد أن يمر وينتهي».
وبنهاية أحداث الرواية التراجيدية ترمي نفيسة بنفسها إلي النيل وتبحث الشرطة عن حسن.. يقدم حسنين علي الانتحار في نهاية الرواية في تساؤل من القارئ: هل سيفعل حسنين ذلك أم لا؟
نجد تلك النهاية متوازنة مع بداية من نوع آخر، وهي بداية حسين في تكوين أسرة بزواجه من «بهية» وبالتالي فلا يسود الجانب التشاؤمي في الرواية علي طول الأحداث، وحتي العنوان «النهاية» يحمل معني ودلالة تشاؤمية فإن هناك «بداية» من نوع جديد تحمل آمال وطموحات تحقيق السعادة.
خاتمة
يتضح مما سبق أن هاردي ومحفوظ رفضا الرؤية التشاؤمية الكاملة للحياة. ولكن وضعية التشاؤم في أعمال هاردي ومحفوظ تمثل نقدا لكل سلبيات المجتمع التي يجب تحاشيها، كما أن الكاتب لو ظل يسرد شخصيات تعاني علي الدوام القدر المصيري فإن جزءا من استراتيجية الكاتب ستصبح بلا فائدة، ولن يستطيع المطالبة بمحاولة تغيير الظروف التي تؤدي إلي تعاسة وحزن البشر.
لقد وضحنا ذلك في الكيفية التي يضع بها محفوظ الظروف الاجتماعية كعامل معطل لسعادة شخصياته ولذلك يضع آمالا علي الحلول العلمية لتخفيض معاناة البشر، مثله مثل هاردي في إيمانه بإمكانية العثور علي البطل الأخلاقي ذي الحدية الداخلية، ويبدو لديهما دائما طريق الكمال ديناميكيا، فلا يوجد شيء منذ البداية في حالة كمال وانتهاء.
إن غروب الشمس، والسواد الذي يصبغ العالم قد حدد الكثير من أحداث روايات هاردي ومحفوظ في إطار كبير تتأسس بداخله وتؤكد في نفس الوقت وجهة النظر المرحة والتي تصبح إمكانية لتأمل وقراءة أعمالهما.
وتبدو لنا في النهاية الحكمة الصوفية هي المكان الوحيد للحصول علي السعادة.
الرواقية: مذهب تأسس علي يد «زيتون الكتيومي» من صقلية وكل تلامذته من خارج اليونان.
كانت الفلسفة عنده «هي علم الأشياء الإلهية والبشرية» وكانت مهمة الفلسفة عنده استبعاد اللامعقول، ورؤية فعل العقل الخالص في الوجود والطبيعة والأخلاق، هي دراسة لتتابع ومعاينة العقل الكلي وتجسده في كل شيء وله نظرية طريفة في القدر "Eimapmene" يري فيها أن العقل الكلي بموجبه وقعت الأحداث في الماضي، وتقع الأحداث في الحاضر.. وستقع في المستقبل.
والفضيلة والخير هما التطابق العقل الكلي.. أما الانفعال عنده فهو «العقل واللا معقول» أو «العقل اللاعقلي» الذي يتمرد علي العقل الكلي.. ولكنه لا يستطيع فعل شيء، فغاية الحياة لدي الرواقي هي أن يحيا ويختار عن تبصر وبملء إرادتنا، الأشياء الموافقة للطبيعة الكلية.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:21
رحيل محفوظ في الصحافة العالمية
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
منذ رحيل نجيب محفوظ في نهاية أغسطس 2006 لم تتوقف الصحف الأجنبية عن الإشادة به بإعتباره المعبر الأول عن ضمير شعبه ولسان حاله، فقد إختارته مجلة «تايم» الأمريكية أخيرا ضمن أهم الشخصيات ذات التأثير الواسع علي الحياة في فترة الستين عاما الأخيرة، وقبلها أفردت له كبريات الجرائد والمجلات العالمية صفحاتها معددة إنجازاته الأدبية التي أعترف بها العالم أجمع، حيث ترجمت أعماله إلي 39 لغة، وحصل علي أرفع الجوائز والأوسمة الأدبية من مختلف دول العالم.
وهذه بعض مقتطفات مما نشرته الصحف والمجلات العالمية عن نجيب محفوظ.
جريدة لوموند، 13 أغسطس 6002
LE MONDE
نجيب محفوظ.. الصوت الحر
بقلم: رافائيل ريرول
الأديب المصري نجيب محفوظ الحاصل علي جائزة نوبل للآداب توفي يوم الأربعاء 03 أغسطس بالقاهرة عن عمر يناهز 49 عامًا.
لا يبدو أن شيئًا كان بإمكانه أن يؤثر في هدوء أعصاب نجيب محفوظ الأنيق، لا الزمان ولا العنف ولا أيضًا النجاح الذي جعل منه عام 8891 أول عربي يحصل علي جائزة نوبل في الآداب. هذا الرجل العجوز النحيل الذي كانت تحجب وجهه نظارة ضخمة وداكنة كان يبدو ثابتًا لا يزعزعه شيء: ألم ينج وهو في الثالثة والثمانين من عمره من الطعنات التي وجهها له أصولي مسلم في أحد شوارع القاهرة يوم 41 أكتوبر 4991؟
أشهر كتاب العربية المعاصرين توفي يوم الأربعاء 03 أغسطس في أحد مستشفيات القاهرة إثر مضاعفات نتجت عن سقوطه بشقته في منتصف يوليو. الكاتب الذي ألف أكثر من خمسين رواية وقصة قصيرة والذي يعتبر أكبر مجدد في الرواية العربية توفي في مسقط رأسه، المدينة التي كانت بأحيائها وسكانها في قلب أعماله.
في الجمالية، الحي الشعبي القديم حيث رأي النور عام 1191 تولد عشقه للمدينة التي كان مقررًا لها أن تأخذ، بقلمه، ملامح شبه أسطورية. نشأ محفوظ في أسرة من الطبقة المتوسطة وأمضي أول ثمانية أعوام من حياته في هذا المحيط الذي يعج بالحياة حيث يتجاور البرجوازيون مع اللصوص ومع أصحاب الحرف، والعاهرات والمتسولين. في هذا المكان تلقي دروسه في المدرسة القرآنية، في هذا المكان أيضًا شهد في عام 9191، انتفاضة سكان القاهرة ضد الإنجليز وأخيرًا في هذا المكان شعر مبكرًا أن قدره في الأدب عشق متعقل ولكنه استغرقه تمامًا وقد كرس له حياته بقوة وبدقة أسطورية. محفوظ الذي كان يعمل موظفًا في الصباح وروائيا بعد الظهر انتج أعمالًا يمكن تقسيمها بيانيا علي ثلاث مراحل بعد الروايات الفرعونية في بداياته (روايات كتبها رجل لم يزر قط المواقع الأثرية الكبري في مصر لرغبته في ألا يغادر القاهرة) جاءت الروايات الحديثة التي اندرجت تحت الواقعية. وقد بدأت بالقصص الثلاث المجمعة تحت اسم الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق والسكرية والتي ظهرت لأول مرة عام 6591 ونشرت في فرنسا لدي دار نشر لا تيس) ويتناول فيها الكاتب الأحداث التي تعرضت لها أسرة قاهرية علي مدار النصف الأول من القرن العشرين. في هذه الروايات كما في روايات أخري «أغنية الشحاذين» lachanson des gueux و«عندما يأتي المساء» viennclanuit جعل المؤلف من الزمن شخصية كاملة مستقلة بذاتها تنظم التطورات أو الثورات التي تحول شيئًا فشيئا قدر مجموعة من البشر.
ثم جاءت بعد ذلك روايات تُسمي «فلسفية» تهتم أكثر بالأفكار وتتأثر جزئيا بتقنية الرواية الحديثة. أثناء ذلك عاش محفوظ فترة صمت امتدت لسنوات عديدة وكانت محنة شديدة الإيلام لشخص كان لا يستطيع أن يتصور الحياة بدون الكتابة، كان محفوظ قريبا من الجناح اليساري لحزب الوفد عندما قامت ثورة يوليو 2591 التي جاءت بجمال عبد الناصر رئيسا في نوفمبر عام 4591، وشعر بالسعادة لنجاحها، كما أوضح في أحاديثه مع جمال الغيطاني ولكنه سرعان ما شعر ـ وهو الرجل الذي كان مؤيدًا للديمقراطية والعدالة الإنسانية ـ بخيبة أمل بسبب توجهات هذه «الثورة» فلم ينتج أي كتاب في الفترة ما بين 2591 و5591 وقد أكد قائلا:ً «لم يتغير شيء في حياتي ولكن بدا لي الأمر وكأني قد فقدت شخصًا عزيزا علي، المجتمع الذي كنت أقوم بسبر أغواره كان قد مات وأنا معه. كانت تلك سنوات مخيفة».
محفوظ الذي كان معتادًا علي التعبير عن رأيه بصراحة، لم يتردد مع ذلك في أن ينتقد الحكم وانحرافات المجتمع ما إن عاود الكتابة خاصة في اللص والكلاب (سندباد 5891) وميرامار (دونويل 0991). علي مائدة المقهي الذي كان يلتقي فيه أسبوعيا لمدة عقود بأصدقائه كان يتناقش معهم في قضايا الأدب والسياسة، فهو لم يكف يومًا عن الاهتمام بالوضع في بلاده. وفي السنوات الأخيرة عندما أصبح نظره شديد الضعف ولم يعد يستطيع أن يعتمد علي نفسه تمامًا كان يدع أحد معارفه يقرأ له الصحيفة كل يوم.
محفوظ الذي كان متحررًا من كل تشيع، لم يكن يتسامح مع أي رقابة لا في السياسة ولا في الأدب لذلك لم يتردد في أن يتحدي المحظورات الدينية في أحد أعماله التي أثارت ضجة «أولاد حارتنا» التي ظهرت في فرنسا تحت عنوان «أبناء المدينة» (سندباد، 0991) الكتاب يظهر في إحدي حارات القاهرة شخصيات مستوحاة من آدم، موسي، عيسي ومحمد تحت أسماء يسهل التعرف عليها تمامًا. وهي شخصيات شجاعة حقًا ولكنها غير قادرة علي بناء عالم أفضل علي عكس وجه رمزي أخر يمثل «السحر» أو بمعني آخر العلم. وقد نشرت القصة أولا علي حلقات في جريدة الأهرام اليومية الكبري عامي 8591ـ 9591 ولكن سلطات الأزهر تلك الجامعة القاهرية المعنية بالسلوك الديني حظرتها ولكن هذا لم يمنع الكتاب من أن يكون مقروءًا بغزارة في العالم العربي أجمع من خلال قرصنة الكتب، حيث ظهرت طبعة مسروقة في لبنان. وقد تعرضت أجزاء كبيرة من أعمال محفوظ للقرصنة خاصة بعد منعها رسميا بعد أن اتخذ صاحبها موقفًا لصالح السلام مع اسرائيل، لذلك فهو لم يكن حصل إلا علي جزء يسير من حقوق النشر قبل حصوله علي جائزة نوبل وما تبعها من ازدهار لنشر كتبه.
والواقع أن هذا الكتاب (أولاد حارتنا) هو الذي أثار غضب الأصوليين عام 4991 عقب نشره من جديد مسلسلاً في إحدي الصحف اليومية.
وقد طالب الأزهر بمنع النشر وبسحب النسخ المطروحة أيضًا وارتفعت الأصوات مهددة الكاتب ووافق محفوظ علي عدم إعادة النشر ولكنه رفض سحب النسخ من التداول، وقد رفض أيضًا العرض الذي قدم له بأن يصاحبه حارس، واستمر في التنزه بدون حماية في شوارع المدينة التي حملها بروعة الي مرتبة البؤرة الكونية.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:22
لوموند، 13 أغسطس 6002 اكثر من حياة حتي مع كبر سنة، وحتي بعد أن أضعفه المرض (فقد كان مصابا منذ فترة طويلة بالسكر) وحتي بعد أن أصبح شبه أعمي واصم تقريبا، رغم كل ذلك يبدو أن الحزن لم يتمكن منه قط عندما كان يستقبل زائرًا في شقته المتواضعة بالقاهرة كان يتحرك بظله النحيف مرتديا الروب المنزلي ويقوم بفتح الباب بنوع من المرح المهذب بشرط طبعًا أن يكون الزائر قد وصل في موعده: فقد كان شديد الارتباط بالدقة في المواعيد بالرغم من أنه كان يعيش بدون ساعة. السر، إذا كان يوجد سر ما، نجده في عبارة تلفظ بها وهو ينظر مفكرًا باتجاه المترجم. فهو لم يكن يتحدث لا الإنجليزية ولا الفرنسية وهو شيء غريب وهو المعروف بثقافته الكونية. فكان يلجأ الي خدمات شخص آخر. وكان ضعف بصره يجبره علي النظر تجاه الأصوات وليس الأشكال: «أنا أفكر دائمًا في الأشياء الجميلة التي نعيش من أجلها» هكذا قال. العيش من أجل الجمال حتي ولو لم يتمكن من النظر إليه ومع ذلك ففي رواياته، لم يكن نجيب محفوظ يخضع قط لإغراء التجميل والتزيين فالطبيعية التي ظهرت في كتبه التي تكونت منها الثلاثية مثلا تبعده عن التقاليد التي كانت متبعة في الأدب العربي. ففي هذه المجموعة التي بدأت بـ«بين القصرين» كانت قوة النص الروائي بكل معني الكلمة هي التي برزت وذلك في ظل ثقافة عربية لم تكن الرواية فيها قد نمت. تفسير التعقيدات عندما سئل عن واقعيته، أوضح أنها كانت اختيارًا ضروريا في زمن كان المجتمع المصري يخرج فيه من «الرومانسية» متحولا أكثر فأكثر إلي التعقيد وهذا التعقيد كان يجب أن يتم تحليله وتفسيره. «لقد اخترت الواقعية لمعرفتي بالأسباب وذلك في وقت كان الغرب يعلن فيه موتها»، ومع ذلك لم يشأ الكاتب قط أن يلجأ إلي اللهجة العامية حتي في الحوارات التي كانت تتم بين البسطاء في القاهرة، فاللغة كما كان يؤكد هي الرابط الحقيقي الوحيد الباقي بين الدول العربية، علي الأقل هي الرابط الوحيد الأكيد أما غير ذلك فكان مجرد أماني. كان نجيب محفوظ كثير الإنتاج، كان يكتب كافة الأشكال. كان أيضًا متمكنًا من أدواته في الرواية وأيضًا في القصة القصيرة والتراجم الذاتية وحتي في الروايات التاريخية في بداياته. الحارة كانت تظهر علي الدوام في أعماله كانت هي الجزء من المدينة ومن الحياة الذي يأسره منذ طفولته المبكرة، وبالرغم من الدعوات التي كانت تصله فهو لم يوافق قط علي الإقامة بأي مكان آخر غير مصر حتي ولو لاستكمال دراسته أو في إطار عمله كموظف كبير. الرحلات نفسها والسفر لم يكن يجذبه: «أنا لا أمتلك الوقت اللازم.. هكذا كان يؤكد. لقد رفض حتي الذهاب إلي استوكهولم لتسلم جائزة نوبل. حياته كلها تركزت في الأماكن التي شهدت مولده وطفولته وحيث كان يجد مصادر آلام لا تنتهي. حياته كانت كلها مكرسة للقراءة ـ خاصة لدراسة الأعمال العلمية كيمياء وفيزياء وفلك ـ وللكتابة التي قال عنها إنها تتيح لنا فرصة أن نحيا أكثر من حياة للإنسان الذي لا يمتلك في متناول يده سوي حياة واحدة. محفوظ كان يؤمن بالقدر وكان لديه اعتقاد في نهاية حياته أن أعماله لم تعد تهم الشباب وكان يضيف مؤكدًا: «إذا كانت بعض كتبي لا تزال تنشر فذلك لأنه لا يزال هناك أشخاص في مثل سني علي قيد الحياة»، ولكن هذا لم يمنعه من أن يأمل في أن يكون بإمكانه أن يكتب حتي لو قصة قصيرة واحدة «عظيمة مثل الروح».
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:24
مجلة الإيكونومست 2 سبتمبر
The Economist
يبدو أن أرواح الكتاب العظماء تظل حاضرة بعد الموت في المدن التي عاشوا بها.. فطيفا جويس وكافكا مازالا يخيمان علي شوارع دبلن وبراغ. وحضور بورجيسي الساحر مازال يومض في مقاهي بيونيس أيريس من خلال دخان السجائر وعرق التانجو. أما في القاهرة القديمة فإن روح نجيب محفوظ هي التي تحلق في المكان.
ليس فقط لكونه أحد الوجوه الأدبية الشامخة أو لأنه الرجل الذي أرخ لقرن صاخب عاشته مصر بأسلوب يدعو للابتسام. وليس لأنه أسكن في أعماله 53 رواية، وأكثر من عشرين سيناريو واثنتي عشرة مجموعة قصصية ومقالات وأحلام ـ شخصيات قوية لا تنسي عاشت كلها بالمدينة. فمحفوظ نفسه كان يجسد الروح التي تجعل من كل ما هو جارح للمشاعر وخشن وصاخب في هذا التكدس البشري الموجود بالقاهرة أمرًا محتملاً.
لقد كان نموذجًا مثاليًا للرجل النبيل (الجنتلمان): يفضل البقاء في الظل ويتجنب المديح والاهتمام، متسامحا ومستمعا جيدا للآخرين. في السبعينيات من عمره كان يجول عبر المدينة وحيدًا في نزهات صباحية مبكرة تنتهي في واحد من المقاهي العديدة التي كان يقابل فيها بالترحاب كأنه الابن العائد إلي الحي.. في التسعينيات من العمر كان نادرًا ما يتغيب عن اللقاء الأسبوعي مع مجموعة من المقربين إليه في أحد الأماكن العامة التي تطل علي النيل هناك كانت تدور أحاديث لا تنتهي عن الهموم إلي جانب الأحاديث السياسية والنكات التي تزود الحياة المصرية بالبهارات.
أحيانًا كان يبدو صريحًا وأحيانًا كان يعارض بشدة الاتجاهات الثقافية السائدة في بلده. فكان يدين القمع الذي تمارسه حكومة جمال عبدالناصر الشعبية الثورية. ويمتدح خلفه أنور السادات الذي سعي للسلام مع إسرائيل، ومرارًا كان يتحدي المعتقدات الموروثة بما في ذلك المتعلقة بالإسلام.
سخريته كانت أحيانًا حادة وتهكمه ونقده الاجتماعي لاذعًا: سي السيد الأب المتسلط في «الثلاثية» الشهيرة تحول نموذجًا عربيًا يضرب به المثل علي الشعور الفظ بالتفوق الذكوري.
عالم الحارات
محفوظ كان علي معرفة كبيرة بموضوعاته وكأنه ابن بلد حقيقي، ابن التراب القاهري. كان الأصغر بين سبعة إخوة وقد ولد عام 1191 بحي الجمالية، وهو حي يعود تاريخه إلي ألف عام مضت، يتكون من أزقة ملتوية ومتراصة ومكتظة تطل عليها شرفات تحجب عنها ضوء النهار. مع مرور الوقت، حين بلغ السادسة سارت أعمال والده، وكان تاجرًا، نحو الأفضل فتمكن من اللحاق بأبناء الطبقة المتوسطة الذين فروا إلي المناطق الأكثر حداثة والأكثر تعرضًا للتأثيرات الخارجية ولكن محفوظ لم يفقد قط حبه للمدينة القديمة. العديد من أعماله الروائية القوية تدور أحداثها هناك وتستقي أسماءها من أحيائها مثل زقاق المدق والسكرية في أعمال عدة أيضًا أصبحت الحارة المتواضعة بالمدينة القديمة حيث كانت تدور الصراعات بين الفتوات وحيث كان يتولد الشعور بالانتماء، أصبحت تعبر مجازًا عن مصر أو عن العالم نفسه.
كان والده يأمل في أن يقوم ابنه بدراسة الطب إلا أن محفوظ اختار بدلاً من ذلك دراسة الفلسفة. وقد انجذب محفوظ إلي الأدب الأوروبي كما انجذب إلي علم المصريات الذي تحول وقتها إلي «موضة» بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سليمة تمامًا عام 2291 فبدأ بالكتابة ولكن بصورة متقطعة.. في منتصف الأربعينيات قام بنشر ثلاث روايات تاريخية تدور في مصر القديمة. وكان في مخططه أن يكتب سلسلة طويلة من تلك الروايات.
ولكن الأحداث السياسية والأحداث الجارية غيرت هذا المخطط فالحرب العالمية الثانية ونتائجها أحدثت مجادلات ومناظرات عاصفة بين الطبقات الاجتماعية التي كانت تشهد تحولاً في مصر. في نفس الوقت، كانت قد نمت صداقة وثيقة بين محفوظ وصلاح أبوسيف وكان أحد المخرجين المصريين اللامعين.. هذان الأمران حولا اهتمام محفوظ وموهبته إلي دراما الحياة الواقعية في شوارع القاهرة.
ما بين منتصف الأربعينيات ومنتصف الستينيات كان إنتاجه قد بلغ اثنتي عشرة رواية واقعية تشكل قوامة أعماله. في هذه الأعمال كان نادرًا ما يتناول مباشرة الأحداث الكبري في هذا الوقت ولكن مثله مثل الروائيين الأوروبيين الذين كان يستمتع بقراءتهم كان يتناول الاتجاهات التاريخية من خلال تجارب المواطن العادي.
من خلال هؤلاء الأشخاص قام بتصوير الصدام بين التقليد والحداثة وعزلة الفرد والصراع من أجل الكرامة الشخصية ما بين الفقر العام وقمع الدولة.
والنتيجة كانت مجموعة من الأعمال التي يمكن مقارنتها بأعمال بلزاك وديكنز.. ولكن محفوظ زاد عليهما أنه قام بتعريف قرائه علي طريقة جديدة للنظر إلي الأمور. لقد قام بإثراء الأدب العربي الذي إن كان غنيًا ربما بإنتاجه الشعري الذي لا مثيل له إلا أنه كان لايزال يجهل تقريبًا عالم الخيال الروائي المتكامل.
كانت الكتابة مبعث سرور له.. الكتابة كل صباح ودائمًا بخط اليد وليس بواسطة الآلة الكاتبة وهذا ما جعل من أسوأ دراما تعرض لها في حياته الخاصة أمرًا شديد القسوة بالنسبة إليه. ففي الثالثة والثمانين من عمره قام رجل متطرف دينيًا بطعنه بسكين في رقبته. ويبدو أن الرجل قد قام بهذا العمل متأثرًا باعتراض ديني علي إحدي الشخصيات الرمزية التي قدمها محفوظ في إحدي رواياته. ولكنه أخفق في مهمته، إلا أن تلفًا في العصب دفع محفوظ للتوقف عن الكتابة لمدة خمسة أعوام.
ربما كان بإمكانه هو نفسه أن يُصور في إحدي حبكاته الدرامية حدث عنف فجائي مماثل، ولكنه لم يكن ليجعل الدين سببًا له أبدًا. فعند قبوله لجائزة نوبل للأدب عام 8891 قدم نفسه علي أنه يشعر بالسعادة والامتنان لكونه كان متلقيًا للتقاليد الثقافية المصرية والإسلامية والغربية.
والأمر الذي جعل من الإسلام مثالاً به كما قال هو ذلك القرار الذي اتخذه أحد الحكام المسلمين الأوائل ويقضي بافتداء سجناء مسيحيين بأعمال خاصة بالفلسفة والطب والرياضيات اليونانية.
لقد كان هذا الفضول العلمي وهذا الكرم النفسي والروحي هو ما حلم محفوظ بأن يسود في مدينته.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:26
جريدة الديلي ستار أول سبتمبر
The Daily Star
مصر تودع نجيب محفوظ
شكسبير العرب
ودعت مصر يوم الخميس 13 أغسطس كاتبها الشهير نجيب محفوظ الحاصل علي جائزة نوبل في الأدب والذي توفي عن عمر يناهز الرابعة والتسعين ويعد نجيب محفوظ أحد أشهر كتاب الأدب العربي المعاصر.
لقد تم إغلاق حي مدينة نصر بالقاهرة، حيث تم تشييع جثمان الفقيد في جنازة عسكرية ضخمة حضرها الرئيس محمد حسني مبارك.
وضع جثمان الفقيد ملفوفًا بعلم مصر علي عربة مدفع تجرها الخيول وقد حمل بعض المشيعين لافتات سوداء كتبوا عليها «وداعًا شكسبير العرب».
أم الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر صلاة الغائب في مسجد آل رشدان، حيث شيعت مصر أشهر كتاب العالم العربي وأحد أشهر سفرائها، وقد تمت إذاعة الجنازة علي الهواء مباشرة علي التليفزيون المصري والتي بدأت بجنازة شعبية خرجت من مسجد الحسين بالقاهرة الإسلامية بناء علي طلب محفوظ نفسه قبل وفاته.
وقد حضر الجنازة الشعبية الشيخ طنطاوي أيضًا والذي نعي نجيب محفوظ قائلاً إنه كان له الفضل بأن جعل الأدب المصري معروفًا في باقي العالم. وقد احتشد في قلب المدينة القديمة آلاف من الأقارب والأصدقاء والمعجبين لتوديع كاتبهم في حضور أمني مكثف، هذه المدينة التي شهدت مولد محفوظ والتي برع في وصفها طيلة مشواره الأدبي الذي امتد إلي أكثر من سبعين عامًا.
وقد نعي مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة، نجيب محفوظ قائلاً: «إنه رجل أحب مصر وكان مخلصًا للأمة» وقد أم المصلين في الحي الذي شهد مجيئه إلي العالم، فجعله مكان ميلاده، ومكان وفاته.
في اعتراف واضح لتأثير نجيب محفوظ علي المجتمع المصري، حضر جنازته عضوان بارزان وخمسة محامين من الإخوان المسلمين، إحدي كبري الجماعات الإسلامية المصرية، علي الرغم من البيان الذي أصدرته يوم الأربعاء والذي اعتبر رواية «أولاد حارتنا» تمثل اعتداء علي المبادئ الإسلامية.
وقد وصف محمد عبدالقدوس أحد أعضاء هذه الجماعة نجيب محفوظ أنه «رجل مسلم عظيم ومتواضع ومخلص» وذلك في لقاء له مع التليفزيون المصري الرسمي. تعد جماعة الإخوان المسلمين من أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان المصري ولكنها تظل جماعة محظورة قانونيًا.
ولد نجيب محفوظ في شهر ديسمبر من عام 1191 وهو من أشهر الأدباء المصريين بنحو 05 رواية. بدأ محفوظ الكتابة في سن السابعة عشرة ونشر أول أعماله عام 9391. ثم تلاها العديد من الروايات ولكن الثلاثية الشهيرة بين القصرين والسكرية وقصر الشوق والتي نشرت بين 5591 و7591 جعلت منه واحدًا من أشهر أدباء اللغة العربية. لكن رواية «أولاد حارتنا» التي نشرت عام 9591 أدينت من قبل جامعة الأزهر لمنافاتها تعاليم الدين.
إن كل فنان في مصر كان يتطلع إلي نجيب محفوظ وقد توالت رسائل التعازي من تلاميذه وأصدقائه ومحبيه وأيضًا من الأدباء الذين تأثروا بكتاباته.
أعلن صنع الله إبراهيم، الذي يعتبر اليوم أعظم الكتاب المصريين الأحياء أنه يجب اعتبار محفوظ أستاذ الرواية العربية.. فكل رواية من رواياته تمثل تجربة جديدة. مضيفًا: «نجيب محفوظ يمثل للرواية العربية ما تمثله الأهرامات لمصر».
إن وجهة نظره المعتدلة عن إسرائيل وعن المعتقدات الدينية والتي ظهرت في معظم رواياته جلبت نقدا شديدا طوال السنوات ولكن مصر اتحدت كلها في توديع أحد أهم رموزها يوم الخميس 13 أغسطس.
وقد كتبت جريدة «المصري اليوم»: «لقد رحل نجيب محفوظ، لا شك أنه ستمر سنوات قبل أن تأتي مصر برجل بهذه المكانة، رجل يمكنه أن يصبح سفيرًا لها ليس فقط في عالم الأدب لكن أيضًا في تطلعها للحرية والتقدم».
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:28
قادة العالم والمثقفون يبكون نجيب محفوظ
جريدة الديلي ستار
بكت الدوائر السياسية والثقافية المصرية واحدًا من كبار كتاب كتاب العصر الحديث، وهو نجيب محفوظ الذي وافته المنية يوم الأربعاء 03 أغسطس الماضي.
وقد أكد القادة التزام الروائي الكبير بالدعوة إلي السلام وتمسكه بحوار الثقافات في حين أشاد أصدقاؤه والفنانون بطبيعة كتاباته الفريدة من نوعها وسعة صدره التي لا مثيل لها.
وقد عبرت استيفان دوجاربك ـ المتحدثة الرسمية باسم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي كان في جولة في المنطقة في ذلك الوقت ـ عن أسفها الشديد لوفاة هذا الكاتب العظيم، وأضافت المتحدثة الرسمية: إن رحيل رجل أثري كثيرًا الأدب العربي هو خسارة كبيرة للعالم العربي ولعالم الأدب.
وتعقيبًا علي خبر الوفاة قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك: إنها وفاة أحد الرموز المهمة في الأدب العالمي.. إنه رجل سلام، تسامح وحوار.
أما رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان فقال: إن أعمال محفوظ وسيرته الذاتية سوف تظل دومًا مبعثًا للأمل ومثالاً لرفض محاولات الخنوع والاستسلام.
أما الرئيس الأمريكي جورج بوش فقد قال: إن كتابات هذا الروائي العظيم وقصصه القصيرة وسيناريوهات الأفلام التي كتبها تتخطي كل القوالب المعروفة والجامدة لتخوض في أعماق المصريين والنفس البشرية علي حد سواء.
وقال تصريح صادر من مكتب الرئيس حسني مبارك: إن محفوظ يعد كاتبًا غير عادي فهو كاتب مستنير جعل الأدب والثقافة العربية في بؤرة الاهتمام.
وأضاف البيان: إن رواياته قدمت مبادئ تعد قاسمًا مشتركًا بين جموع البشر، وكتاباته خدمت بلا شك مبادئ التسامح التي تتنافي مع الإرهاب.
إن محفوظ الحاصل علي جائزة نوبل في الأدب عام 8891 قد وافته المنية متأثرًا بفشل تنفسي وتوقف في عضلة القلب بعد أسابيع من المعاناة من جراء تدهور مفاجئ وسريع في حالته الصحية.
إن وصول كتابات نجيب محفوظ إلي العالمية وخاصة ثلاثيته الشهيرة وعمله الذي امتد علي مدي سبعة عقود كاملة ووضعه كعميد للأدب العربي الحديث والرواية العربية قد جعلت منه واحدًا من أعظم كتاب القرن الماضي.
وفي تصريح أدلي به وزير الثقافة المصري فاروق حسني لوكالة الأنباء الفرنسية قال: إن وفاة نجيب محفوظ هي خسارة كبيرة للعالم العربي وللعالم أجمع. إن أعماله قد تخطت حاجز المحيط القومي وسوف يمتد تأثيرها بلا شك إلي الأجيال المقبلة.
وفي برقية بعث بها وزير الثقافة الإسرائيلي أوفير باينز إلي نظيره المصري السيد فاروق حسني وصف الوزير محفوظ بالكاتب الكبير وأشاد بمساندته لعملية السلام مع إسرائيل الذي اضطر إلي دفع ثمنها غاليًا، في إشارة إلي محاولة الاغتيال التي تعرض لها في عقر داره.
من جانبه قال الملك عبدالله الثاني ملك الأردن في رسالة التعزية التي بعث بها بوفاة الكاتب الكبير ـ رحمه الله ـ قد خسرنا عقل مفكر عظيم وأحد أركان الأدب العربي.
وفي تصريح له قال وزير الخارجية الألماني فرانك والتر شتاينمر إن ألمانيا تقدم تعازيها في مفكر جليل وكاتب أعظم استخدم في كثير من الأحيان قوة الكلمات لإعلاء مبادئ العدالة، الحرية، الحب ورفاء الإنسانية. ومن جانبه قال أبو ضيوف، سكرتير عام منظمة الفرانكوفونية مقدمًا تعازيه لروائي مصر العظيم، أول شخصية عربية حاصلة علي جائزة نوبل في الأدب والشخص الوحيد إلي يومنا هذا الذي استطاع أن يجعل من كتبه ومعتقداته بصمة لا تُمحي في الحقيقة كل فنان في مصر كان يكن الاحترام لمحفوظ وتعددت خطابات التعازي من تلامذته، أصدقائه وأقرانه الكتاب الذين تأثروا كل التأثر بكتاباته.
قال صنع الله إبراهيم الذي يعد غالبًا أهم كاتب مصري في غياب محفوظ إلي وكالة الأنباء الفرنسية إنه يجب اعتبار محفوظ أستاذ الرواية العربية إذ إن كل رواية كتبها كانت تعد تجربة في حد ذاتها.
وأضاف أن محفوظ يعتبر بالنسبة للرواية العربية بمثابة هرم من أهرامات مصر الشامخة.
إن جميع الكتاب تعالت أصواتهم إعجابًا بمحفوظ الذي عرف عنه الالتزام الشديد ككاتب وقد بكوا جميعًا صديقًا عزيزًا ومصدرًا للإلهام لا مثيل له.
إن محفوظ كان كاتبًا ملتزمًا هكذا تحدث عنه الشاعر المصري جمال القصاص عندما سألته وكالة أنباء الشرق الأوسط وأضاف: إن محفوظ عاش حياته متفانيًا في خدمة بلاده.
وأضاف القصاص: إن عملية الكتابة عنده كانت تمتد لثلاث ساعات بعد العمل وكان يعاود الكتابة مرة أخري ليلاً وكان دومًا يتوقف في منتصف الليل.
والروائي محمد الياسطي قال: لا شك يعتبر محفوظ أهم روائي في العالم العربي وقد استحق جائزة نوبل عن جدارة. أما علي الصعيد الإنساني فقد كان إنسانًا بسيطًا وكان يتعامل بطيبة مع الناس.. نجيب محفوظ أحب الحياة وكانت الكتابة بالنسبة له والإبداع وسيلة لمحاربة النسيان والموت. قال ذلك يوسف القعيد وهو روائي وصديق مقرب للروائي الراحل.
أما يسري نصر الله فقد قدم تعازيه ببالغ الحزن والأسي كما أشاد بمحفوظ أثناء مهرجان أفلام فينيسيا قائلاً: لقد خسرنا محفوظ، وهو رجل كان يعتبر مثالاً احتذي به جيل بأكمله.. محفوظ الذي جعلنا نفهم مصر الحديثة.. ونصر الله الذي اختير ضمن لجنة تحكيم قسم «آفاق» في المهرجان قال أيضًا: محفوظ كان بمثابة مرشد حارب حتي النهاية ضيق أفق البعض في عالمنا العربي.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:29
جريدة ليبراسيون 13 اغسطس 6002
LIBERATION
بقلم: كلود جيبال
القاهرة تفقد محفوظ
توفي الكاتب المصري الحصل علي جائزة نوبل في الأدب عام 8891 عن عمر 49 عامًا. طوال ما يقرب من قرن، ظل «بلزاك العربي» يرسم صورة لأمته ويعلن حبه للمدينة التي ولد فيها.
منذ عدة سنوات في صباح يوم مليء بالغيوم من شهر ديسمبر، كان رجلان ذوا شوارب كبيرة يقومان بحراسة منزل الأديب الكبير وسط باقات الزهور التي غطت الرصيف أمام النيل في الشقة امتزجت رائحة الورد برائحة الياسمين وانتشرت باقات الزهور في كل مكان حتي فوق المكتبات لتضفي علي المكان ألوانا زاهية، كان نجيب محفوظ يمر بين الباقات والزهور التي أرسلت له بمناسبة عيد ميلاده «هذه الباقة من لجنة نوبل، وهذه من وزير الثقافة، ويا تري من أرسل هذه؟» هكذا سأل وهو يمرر يدا حانية علي الزهور ووجهه مبتسم مثل طفل يقف أمام محل لعب. أضاف محفوظ وهو يجلس «أنا محظوظ جدا بكل هذا الاهتمام» ثم بدا أنه يسرح بعيدا وهو يسحب سيجارة من جيبه ويشعلها بنهم. «لا أسمح لنفسي سوي بسيجارة واحدة من حين لآخر بدون علم زوجتي وطبيبي». حول عنق الكاتب، يوجد وشاح ناعم يخفي بالكاد الندبة التي سببها جرح في الشريان الستاني إثر طعنة وجهها له أحد المتعصبين عام 4991 وقد حاول هذا المجرم قتل الكاتب المصري الحاصل علي جائزة نوبل لأنه كان يظن أن محفوظ أساء إلي الإسلام بتجسيد الله والأنبياء في روايته «أولاد حارتنا».
بعد رحلة طويلة مع المرض، توفي أمس في القاهرة أشهر الكتاب العرب.
كان محفوظ يمثل الرمز الحقيقي لبلده، يقف تمثاله شامخا في مدخل شارع جامعة الدول العربية أحد أهم شوارع العاصمة (يا له من رمز) منذ عدة سنوات كان محفوظ يعيش في عزلة ويهرب من المناسبات العامة والاحتفالات التي كان يدعي إليها. كان يتحجج بالتعب وبضعف سمعه وبصره. وكان يعتذر عن غيابه بعدة أسطر يقرؤها بهدوء أحد تلاميذه. فقط دائرة من الأصدقاء المقربين، من مثقفين وصحفيين وفنانيين وكتاب كانوا يستطيعون إخراجه من كهفه لتناول العشاء في المقاهي أو المطاعم العائمة في القاهرة. هذه اللقاءات التي أصبحت نادرة جدًا منذ ثلاث سنوات بسبب وعكة صحية أدخلته المستشفي، كانت تمثل شيئًا مهمًا جدا في حياة منظمة جدًا، كان محفوظ يكتب خلال ثلاثة أشهر فقط في السنة في فصل الشتاء من كل عام.
ولد محفوظ عام 1191 في قلب المدينة التي بناها الفاطميون عند أحد أطراف حي الجمالية الشعبي وفي كل أعماله لم يتوقف قط عن سرد ووصف البيئة التي ولد بها. روائي المدينة لم يهتم قط بالأرياف والفلاحين، والصحاري والقري، فقط رواية واحدة من رواياته الحديثة وهي «ميرامار» تدور أحداثها في الإسكندرية. محفوظ القاهرة لم يكن يتنفس سوي لمدينته وشعبه. أصحاب نفوذ وبؤساء تجار وشحاذون، أشراف ولصوص وحكماء وأصحاب أخلاق، كل هؤلاء يسكنون أعماله الخصبة. من خلال أكثر من أربعين رواية، بالإضافة إلي القصص القصيرة والسيناريوهات، رسمت أعمال محفوظ صورة أمة وأبنائها علي مدار ما يقرب من قرن. أعمال كلها مغرقة في الواقعية جعلته يستحق لقب بلزاك العربي.
عندما قرر محفوظ اعتناق الأدب مثل الذي يعتنق دينا جديدا، لم يكن قد أتم عامة العشرين. كان الشاب يقرأ لكثير من الكتاب دون أن يستطيع أن يروي عطشه للمعرفة، وقرر أن يهب نفسه للكتابة. بعد دراسة الفلسفة في الجامعة أصبح نجيب محفوظ موظفًا مثل والده وبدأ في كتابة أول مقالاته الصحفية، كان طموحه يتركز في سرد التاريخ المصري من خلال ثلاثين رواية لكنه توقف بعد كتابة ثلاث روايات مستوحاة من التاريخ الفرعوني والتي لم تلق نجاحًا كبيرًا عند نشرها. كان محفوظ محبا أيضا للسينما (شغل أثناء حياته عدة مناصب في الجهاز الحكومي للسينما، منها رئيس الرقابة)، كتب محفوظ عددا كبيرا من السيناريوهات، دون أن يهمل عمله الأشهر وهو الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية). الثلاثية حكاية شديدة الواقعية كتبها محفوظ خلال الخمسينيات، حيث كانت القاهرة تشهد تحولا كبيرا، من خلال حكاية أحمد عبد الجواد وأبنائه، تتشابك هموم البلد مع سقوط الملكية، ثم قيام الثورة ونهاية مرحلة زمنية. كان لهذا العمل أثر مهم جدًا علي أدب العالم العربي، حيث استطاع محفوظ أن يمزج بين قواعد الرواية الأوروبية والغني الفريد الذي تتميز به اللغة العربية، تعتبر الثلاثية عملا تأسيسيا ترك اثرا واضحًا علي عدة أجيال من الكتاب، حيث وجد هؤلاء في «الحرافيش» أحد أهم أعمال محفوظ أيضا، استكمالا لنفس الاسلوب والإطار. يقول علاء الأسواني مؤلف رواية «عمارة يعقوبيان»: «لا يستطيع أي كاتب عربي أن ينكر أنه لم يتأثر بأعمال محفوظ».
بالطبع يحكي أيضا محفوظ التغييرات العميقة التي طرأت علي حياته. بداية من حماسه الذي لم ينطفئ قط تجاه الثورة الأولي في مصر عام 9191. من نافذة بيته في الجمالية شاهد محفوظ الطفل الثورة التي قامت ضد المحتل الإنجليزي أما الثورة الثانية عام 2591 والتي أسقطت الملكية وجاءت بجمال عبد الناصر إلي الحكم، فقد تركت لدي هذا الوطني الرومانسي إحساسا أقل حدة. محفوظ يفخر بالاستقلال الجديد والمكاسب التي حققتها الثورة للشعب وبالأخص التعليم، ولكنه يحزن لتسلط الضباط الأحرار وغياب الديمقراطية ولكن محفوظ لم يعبر عن هذا النقد إلا في مرحلة متأخرة حتي إن البعض انتقدوه لأنه لم يتطرق بصورة مباشرة إلي التطورات السياسية في البلاد ولم يتحدث بصوت عال أمام كبار هذا الزمن، سواء كان عبد الناصر، أو السادات أو مبارك. عند قيام الثورة كان محفوظ يعتنق الاشتراكية وبعد عدة سنوات بدأت مواقفه تأخذ اتجاهًا أكثر اعتدالا، حيث شرح للكاتب محمد سلماوي أن «أي نظام يؤدي إلي العدالة الاجتماعية مقبول، حتي وإن كان رأسماليا».
المتحدث باسم المنسيين في العالم الثالث
في كلمته أمام أكاديمية نوبل، كان محفوظ وهو أول كاتب عربي والوحيد الذي حصل علي هذه الجائزة، قد رفع من نبرته، ونصب نفسه متحدثا باسم المنسيين في العالم الثالث، والجائعين في إفريقيا وآسيا، وأعرب عن قلقه، يا لها من نبوءة، تجاه مصير الفلسطينيين، حيث توجه إلي القادة الدوليين قائلا: «لا تكونوا متفرجين علي مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورًا نبيلا يناسب أقداركم.. نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية».
خلال السنوات الأخيرة كان محفوظ يستعلم عن تطورات العالم في أصدقائه من خلال اللقاءات الأدبية ولم يتوقف عن نقد الأحداث من خلال عمود أسبوعي يكتبه في جريدة الأهرام. كان ينظر بشفقة إلي الفوضي التي تعم الشرق الأوسط ويصر علي أن فوضي الحرب تعبر عن نقص الثقافة كان يكتب: «أنا أقف في صف المعرفة، الطريق الوحيد للخلاص في بحر الجهل العميق الذي نعيش فيه» مثل عبد الجواد الشخصية الرمزية في الثلاثية، لم يكن محفوظ يرتوي قط: علوم تكنولوجية، اتجاهات جيدة في الفكر، لم يكن يفوته شيء، كل شيء كان يبهره حيث صرح مرة لجريدة ليبراسيون: «كلما تقدمت في العمر أدركت مدي جهلي»، «العلم يساعدنا علي أن نكون أفضل، العلم والمعرفة هدية من الله للإنسان».
ولكن العطش إلي المعرفة لم يؤثر قط علي معتقداته الدينية، بعد سنوات من الشك المعلن، بحث محفوظ عن أسس إيمانه ووجد في الصوفية إجابة لهذه المعضلة «أمام المطلق والعقلانية، توجد معرفة أخري، معرفة القلب، الحقيقة تعاش وتحس ولكنها لا تشرح».
ثم يضيف: «إسلامي هو ما تعلمته وأنا طفل. الأحداث لم تغير شيئا من قناعتي، حتي محاولة القتل التي تعرضت لها لم تغير شيئا. ما أعرفه أن الله واحد هو يعترف بالحرية ويقول للإنسان يجب ألا تتبع أحدا، اتبعني أنا فقط. الله لا يسمح بالتفرقة والعنف: إذا طلب منك عدوك السلام، تصالح معه، الله هو السلام» هذه العقيدة الإنسانية والسمحة هي ما يستند إليه الكاتب ليبرر مساندته لاتفاق السلام بين مصر وإسرائيل الذي وقعه أنور السادات ورفضه المثقفون في بلده.
كما أكد محفوظ أنه غفر للرجل الذي حاول قتله، حتي وإن كانت طعناته قد تركت اثرًا خطيرًا علي صحة محفوظ ثم تسببت في شل أعصاب يده اليمني ومنعته من الكتابة. كان يقول حزينا: «أنا لست من الرجال الذين يملون ما يكتبون»، وهو يشير إلي الحروف العربية المهزوزة التي رسمها علي المفكرة التي كان يستخدمها لتمرين يده علي الكتابة. كان محفوظ يؤكد: «لمحاربة الإرهاب أول شيء يجب عمله هو ثورة تعليمية حقيقية. هنا في مصرلا نعرف سوي قانون الحفظ عن ظهر قلب، كل ما هو مكتوب هو الحقيقة، يجب التخلص من هذا المنهج والسماح للشباب ببناء عقلية نقدية، يجب أن يتعلموا التفكير. يجب أن يفتح التليفزيون أبوابه للمثقفين والعلماء والمسلمين وأيضًا لمن ليس لديهم أحاسيس دينية. يجب أن يفهم الشباب أن الإسلام ليس ضد الحداثة ولكن ضد العنف. يجب الاستفادة من الحداثة واستخدامها. الثوار الكبار مثل مصطفي كامل وسعد زعلول كانوا من المسلمين الأتقياء وكانوا أيضا يؤمنون بالحداثة ويرسلون الشباب للدراسة في الخارج».
ومع ذلك، فقد أصيب عدد من أصدقاء محفوظ بالإحباط حين طلب خلال الشتاء الماضي موافقة الأزهر، أعلي سلطة للإسلام السني، علي نشر رواية أولاد حارتنا لأول مرة في مصر. وقد أكد هذا الشرط مرة أخري منذ شهرين حيث طلب مخرج مصري شاب من نجيب محفوظ السماح له بتحويل الرواية إلي عمل فني. هذه المحاولة الهادفة إلي مصالحة رجال الدين الذين منعوا نشر الرواية منذ اكثر من 64 عامًا قد صدمت الكثيرين فالكاتب عزت القمحاوي يري «أنه بهذا القرار، يخون محفوظ ما كتبه. فهو يعطي سلطة شرعية للأزهر بالحكم علي الأعمال الأدبية»، أما المخرج مروان حامد فيقول «يجب ألا ننسي أن هذا الكتاب قد جلب له جائزة نوبل ومحاولة قتل في نفس الوقت».
كتب محفوظ إلي الأكاديمية السويدية قائلا: «أنا ابن لحضارتين، الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية» ولم يذهب صاحب جائزة نوبل إلي الاحتفال لتكريمه بل أرسل ابنتيه لتمثيله. عشق محفوظ نظرية الأبدية لدي الفراعنة والعظمة والثراء اللذين ميزا هذه الحضارة التي عاشت لآلاف السنين، ومن الإسلام أخذ الأمل وعشق العلوم والآداب. كان محفوظ يذكر دائما عبارة الشاعر العربي أبو العلاء المعري «الحسرة عند لحظة موت تساوي أكثر من الفرحة العميقة عند لحظة ميلاد» واليوم تبكي مصر كلها شعلتها المضيئة دائما.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:31
جريدة ليبراسيون، 13 اغسطس 6002
مخترع الرواية العربية الحديثة
بقلم: كريستوف عياد
لا أحد يعرف من هو «مخترع» اللغة العربية، النبي محمد أم بدو الصحراء العربية. ولكن الشيء الأكيد هو أن محفوظ هو «مخترع» الرواية العربية الحديثة. هو ليس أول من كتبها ولكنه أول من فهم قوة هذا النوع الأدبي الذي كان جديدًا علي مصر في أوائل القرن الماضي، حيث كان الشعر يسيطر علي الأدب. بعد المجموعة القصصية الأولي، بدأ محفوظ في كتابة روايات تاريخية، مثل «عشيقة الفرعون» التي ترجمت حديثا إلي الفرنسية. تركت المحاولات الأولي أثرًا خفيفًا، حيث وجد محفوظ طريقه في اتجاه أكثر واقعية ومعاصرة. روايتا «زقاق المدق» و «عندما يأتي المساء» تمهدان الطريق للثلاثية، أشهر أعمال محفوظ. بعد أن أصبح معروفًا جرب محفوظ نفسه في رمزية هادفة في أولاد حارتنا، وهي الرواية التي أثارت الكثير من الجدل، حيث صور الأنبياء من خلال شخصيات بارزة في أحياء القاهرة الشعبية. أثارت هذه الرواية غضب الأمة وترتب عليها العواقب الوخيمة التي نعرفها. خلال الستينيات والسبعينيات اتجه محفوظ نحو شكل أدبي أكثر حدة، حيث تناولت رواياته قضايا الفساد والفقر وغياب الحريات وفشل الحلم الناصري. ويمكن اعتبار «ميرامار» و «ثرثرة فوق النيل» الأكثر نجاحا وطرافة والبعيدة عن أي ادعاء وكانت تنذر بنكسة 7691. ثم اختبر محفوظ نفسه في اتجاه فلسفي ـ شعري في «الشحاذ».
وقد أبدع محفوظ في القصص القصيرة مثل «الحب تحت سفح الأهرامات» والروايات القصيرة مثل «يوم قتل الزعيم»، وهو تلميح شفاف لموت السادات. لكنه لم يترك قط الحكايات الاجتماعية التي جعلته مشهورًا مثل «الحرافيش» وله أيضا بعض التجارب الأدبية المستوحاة من حكايات أسفار القرون الوسطي مثل «رحلة ابن فطومة» و«ألف ليلة وليلة». سوف تقوم دار نشر (سندباد) وهي أول دار نشرت أعمال محفوظ في لغة غير العربية، بإصدار رائعة محفوظ «حضرة المحترم». وكذلك مجموعة من اللقاءات مع الناقد الأدبي رجاء النقاش. وهو استكمال لعملين سابقين «محفوظ بقلم محفوظ» الذي كتبه ابنه الروحي، الروائي جمال الغيطاني و«وطني مصر» للكاتب المسرحي محمد سلماوي.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:32
مجلة جون أفريك، 3 سبتمبر 6002
JEUNE AFRIQUE
بقلم: نيكولا ميشيل
انطفأ صوت القاهرة
بموت نجيب محفوظ، الحائز علي جائزة نوبل للأدب عام 8891، فقد الأدب العربي أشهر ممثليه.
في الآونة الأخيرة، لم نعد نراه في المقاهي التي اعتاد أن يجلس فيها حيث كان يجد الإلهام. لم نعد نراه علي قهوة علي بابا أو الفردوس أو الفيشاوي. لم يعد نجيب محفوظ يغادر شقته الضيقة. فالشيخوخة والأمراض العديدة التي يعانيها كانت تأكل هذا الرجل الذي كان سيحتفل بعامه الخامس والتسعين في 11 ديسمبر القادم.
إن صوت القاهريين جميعًا قد أنطفأ في يوم 03 أغسطس الماضي في مستشفي الشرطة بالعجوزة. إن مصر تبكي ضميرها والعالم كله فقد كاتبا كبيرا.
ولد نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا عام 1191 بالقرب من حي الجمالية القديم. عند سن السابعة انتقلت أسرته إلي حي راق كان الفارق شاسعًا بين الحي القديم والحي الجديد.
فكان الانتقال بمثابة نقلة زمنية. إن الذكري القوية لهذا التغيير تفسر بلا شك أهمية الزمن، «البطل الحقيقي لروايات» نجيب محفوظ.
بدأ محفوظ الكتابة في سن السابعة عشرة، كان عاشقًا للموسيقي وطالبًا يدرس الفلسفة فبدأ أولي خطواته الأدبية بالقصص القصيرة ونشرت أول مجموعة قصصية له عام 8391 بعنوان «همس الجنون» لم تكن البدايات سهلة لكن محفوظ لم يتوقف قط عن الكتابة حتي حين اشتد عليه المرض كان أول أعماله روايات فرعونية. إن البحث في ماضي مصر الإقطاعي كان يسمح له بنقد ظلم وطغيان أقوياء العالم المعاصر. لكن الاعتراف به ككاتب لم يأت إلا بعد ذلك.
لقد مل محفوظ الرمزية في كتبه الأولي فاختار الكتابة الواقعية المستوحاة من حياة «الناس العادية». فقد شكلت المقاهي والمحلات والأسواق والشوارع المادة الخام لرواياته الجديدة. وأصبح المجتمع القاهري نقطة الانطلاق لكل رواياته. فهو يستخلص منه النكات والأحاديث والشخصيات التي جعلت رواياته تنبض بالحياة. الثلاثية (بين القصرين، السكرية وقصر الشوق) التي نشرت في عامي 6591 و7591 هي أشهر وأنجح روايات سردها نجيب محفوظ بأسلوب حي ومبتكر. إنها لوحة انسانية تفوح منها رائحة الشيشة والقهوة الساخنة، يأخذ نجيب محفوظ القارئ إلي عالم مليء بالفساد والعيوب والموظفين المرتشين. فنجد أمينة السيدة المغلوبة علي أمرها وعبد الجواد الأب ذا الوجهين الملتزم التقي بالنهار والباحث عن المتعة في الليل، بالإضافة الي مجموعة من العاهرات والمتشردين واللصوص فكانت حياة القاهرة كناية عن المجتمع الإنساني كله.
إن نجاح الثلاثية أعطي الثقة لمحفوظ الذي عاش في الخمسينيات فترة من خيبة الأمل في أعقاب ثورة 2591. روايته أولاد حارتنا تم منعها في مصر عام 9591، حيث نري فيها شخصيات تتشابه مع الأنبياء موسي وعيسي ومحمد. ولكن محفوظ لم يعترض علي هذا المنع حرصًا منه علي عدم إثارة المشاكل. «رغم أن أولاد حارتنا لا تمس الدين فلن انشر هذا الكتاب طالما أن الأزهر يعترض عليها فمصر تعاني من كثير من المشاكل، لا أريد أن أضيف إليها مشكلة جديدة».
هذا الموقف الحذر المعتدل لم يمنع انتشار الكتاب الذي كان يباع علي الأرصفة وفي الخفاء في نسخة طبعتها دار نشر لبنانية.
زوج وأب لابنتين، فاطمة وأم كلثوم تيمنا بالمغنية الشهيرة، لم ينقطع نجيب محفوظ قط عن الكتابة. كان أساتذته كبار الأدباء العالميين مثل تولستوي، بروست، جوته، تشيكوف وبعض الأدباء المصريين أيضا أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد. إن استخدامه المميز للغة العربية جعل منه أول المجددين في تاريخ الأدب. يعتبر نجيب محفوظ واحدًا من مؤلفي الرواية العربية الحديثة، فقد استطاع أن يجدد اللغة المكتوبة لتلائم وصف العالم الحديث. كان مخلصا لسكان القاهرة الذين شكلوا مادة كتبه فلم يكن يستطيع أن يصف حياتهم اليومية بلغة عربية فصحي ولم يكن يستطيع أأأأن يضع علي شفاهم الجمل الموزونة التي نجدها في الكتب وليس في الشارع.
فشوارع القاهرة حيث تكثر المقاهي وتتضخم الحكايات نجدها في روايات محفوظ السبع والثلاثين وقصصه القصيرة التي نشرها في 31 مجموعة. كتب للتليفزيون والسينما أكثر من 52 سيناريو أخرجها العديد من كبار المخرجين مثل يوسف شاهين (صلاح الدين، عام 3691) وصلاح أبوسيف، هذه الأفلام ساهمت أكثر من كتبه في بناء شهرته. كثير من كتاب الرواية أمثال صديقه وكاتب سيرته الذاتية جمال الغيطاني اتبعوا أسلوب كتابته.
أما آخر المراحل الأدبية لنجيب محفوظ فكانت فلسفية أكثر وكانت أحيانًا متأثرة بتقنيات الرواية الفرنسية الحديثة.
كان حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل الأدب عام 8891 وهو في السابعة والسبعين من عمره تتويجًا لأعماله التي بلغت العالمية والتي رصدت تطور المجتمع المصري. يذكر أنه كان أول أديب عربي يحصل علي هذه الجائزة. لكن الأديب لم يذهب إلي السويد للحصول علي جائزته، فهو لم يسافر قط حتي الكلمة التي كتبها وسلمها لصديقه محمد سلماوي ليلقيها نيابة عنه تعد من أهم الكلمات الملقاة أمام الأكاديمية الملكية باستكهولم: «نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستعبدين في الجنوب الإفريقي، أنقذوا الجائعين في إفريقيا، أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلوث تراثهم الروحي العظيم، أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة». هل مازالت هذه الكلمات تنطبق علي ما يحدث في عالمنا اليوم؟ في كل الأحوال، فهي تخرج عن نطاق ما نعتاد سماعه.
لم يتزحزح نجيب محفوظ قط عن آرائه السياسية ولم يتردد في التعبير عنها. كان يقول عن الإسلام «يجب علي الأئمة أن يعطوا أفضل صورة عن هذا الدين بمحو كل التفسيرات الخاطئة التي صنعتها مجموعات تجهل حقيقة الإسلام». لكونه مسلما معتدلا كان نجيب محفوظ مناصرًا للديمقراطية، والليبرالية وخاصة العدالة الاجتماعية. «لا أظن أنه يمكن أن يكون هناك صلة بين الإسلام والإرهاب فالإرهاب هو رفض وجهة نظر الآخر، لكن الإسلام دين حرية».
مثل هذه الآراء لم تكن دائمًا ترضي البعض في عام 9891، نشرت صحيفة المساء رواية «أولاد حارتنا» في حلقات مسلسلة بعد ثلاثين عاما من إصدارها الأول، مما أثار غضب الإمام الكفيف الشيخ عمر عبد الرحمن، العضو السابق في جامعة الأزهر والذي اتهم محفوظ بالكفر وأصدر فتوي تهدر دمه.
لكن محفوظ لم يبال ولم يفكر أن يستعين بحراس لحمايته. لقد اعتاد علي الحرية وعلي احترام القاهريين. وفي الرابع عشر من أكتوبر عام 4991 كان محفوظ ذاهبًا كعادته إلي مقهي قصر النيل من أجل مناقشة ادبية فهاجمه رجلان ينتميان إلي الجماعة الإسلامية المتشددة طعناه مرتين من الخلف. نفذ السكين من رقبته فسقط علي الأرض. بمحاولة قتل رجل عجوز يناهز عمره الثالثة والثمانين كان محمد ناجي مصطفي ومحمد محلاوي ينفذان رغبة قائدهما الروحي، الشيخ عمر عبد الرحمن الذي يقضي الآن عقوبة السجن مدي الحياة في الولايات المتحدة لاتهامه في التفجيرات الأولي ضد مركز التجارة العالمي.
لكن نجيب محفوظ لم يمت بسكين التطرف. فهو يدين بحياته لهؤلاء الرجال العاديين الذين سارعوا بالتبرع له بدمائهم بالرغم من أن الحادث أثر علي صحته العامة إلا أن لم يفقد شيئًا من حيوية ذهنه ومن صراحته. إن محفوظ لم يدافع قط عن الإرهابيين ولم يكن من أنصار نظرية القوة. في عام 1002، أدان أحداث الحادي عشر من سبتمبر تمامًا كما أدان التدخل العسكري في أفغانستان. كان يقول «يجب أن نتحلي بالأمل، لا أحد يمكن أن يحارب الي الأبد إلا إذا كان مجنونًا. لكني لا أفهم: لماذا تحارب الولايات المتحدة وهي تمتلك كل الثروات وكل موارد العالم؟ وأضاف: «إن قصف المدنيين الأبرياء وزرع الخوف ليس إلا استعراضًا للقوة العسكرية تغذي من خلالها الولايات المتحدة عوامل انتشار الإرهاب». نجيب محفوظ لم يكن يستطيع بل لم يكن يريد أن ينال إعجاب الناس جميعًا. كثير من الناس انتقدوا مساندته لاتفاقية كامب ديفيد التي أرست السلام بين مصر وإسرائيل، لكنه سيظل ذاكرة زمن كانت فيه «المقاهي» هي الشرايين التي تجري فيها دماء القاهرة ومنشد شوارع الجمالية الصاخبة. إن صورته تزين عدة طوابع مصرية. إذا كان نجيب محفوظ قد اختفي من حياة مدينته الساهرة فإن صوته سيظل حيا في قلوب القاهريين تمامًا مثل ضحكته الشهيرة، فحرافيش محفوظ ينتمون اليوم لتاريخ مصر.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:36
تذييل : فى حب نجيب محفوظ..... اشعار :D
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:38
نجيب .. محفوظ
أحمد سويلم
(1)
ممتشقا فوق الهرم الأكبر
مازال..
يمسك في يمناه القلم
وفي يسراه مفتاح النيل الأعظم
مازال
وأراه ليل نهار..
نجما مشتعلاً بجراح الوطن
ونبعا يروي كل المهج العطشي
وحماما يحتضن البسطاء
ويحمل أغصان الزيتون
ويغرسها فوق جبال الحلم..
الرحلة تبدأ من نبض الكلمة
ثم أراها تمتد.. وتمتد
وتسكنها الرجفة
تسكنها الريح
ويسكنها مطر الصيف
تشق طريقا لم يطرقه أحد من قبل
مازال الموج هناك
يفتح للحلم ذراعيه
يعد زوارقه الألف..
يجرب أشرعة الإبحار
ويبدأ رحلته العاصفة
إلي كل مدائنه المسكونة بالشوق..
مازال علي الشاطئ
يقف البسطاء
البناءون
الحمالون
الحذاءون
النحاسون
الحفارون
السكاكون..
كل منهم يمسك في يده عدته
ينتظر الموكب حين يجيء
يودعه.. ويغني أغنية العشق الأبدي..
(2)
وجه..
حين أحدق فيه
تسكن بين ملامحه
فطرة هذا الزمن..
بكارته
خيط يسري في كل صحاري الأرض
ويلونها..
لحظة حلم وئدت في البدء
يسكن بين ملامحه
هاجس خطو ممتد
صحوة قلب دق عليه الزمن
بقبضته الفولاذية
رعشة قلم تتفجر حمما أوثمرا
أو مطرا عطريا..
يسكن بين ملامحه
وطن يشكو وجعا في القلب
ووجعا في الرأس
ووجعا في العين..
(3)
وأراه بعصاه السحرية
لوّن مقل الوطن
بلون الزرع الأخضر
كم هو مسكون بالدهشة
هذا الوجه النوراني
كم هو مهموم بطلاسم
هذا العشق السري
كم هو مغسول بالفرح وبالحزن
بوهج الحكمة والصبر
أعرفه هذا الوجه الممزوج
بطمي النيل
وعرق البسطاء
ونخل الشطآن
(3)
قلم.. بين يديه.. الجمر
يمد جسور الكلمات
فأري أرصفة الجوع
وصحراء الفقر
وأوسمة المقهورين
قلم يهمس للقلب المنتظر علي ميناء الشوق
وينصهر أمام عيون العشاق
ويشقي بشقاء المهمومين..
قلم صار أنينا لضحايا الخوف
وصار حنينا للشمس..
وصار رنينا للصمت..
وأراه نبعا للحرف الصارخ
والميلاد.. الآتي
والموت الرافض هذا القبر الضيق
قلم مشتعل بالجمر
ومرتحل بالموج
ومحمول بالريح
يركض في رحلته.. لا يتوقف
(4)
قالوا: ودَّعنا.!
قلنا: حتي نلقاه .. كما عوّدنا
قالوا: لن يأتي ثانية..
قلنا : هو طقس حضور لا يغشاه غياب..
قالوا: قُطع الوصل النابض معه
قلنا: العالم نبض ينبع من قلبه..
قالوا: ما بالكم الآن.. جُننتم؟
قلنا: أسمي مافي الحب جنونه..
قالوا: طُويت صفحته.
قلنا: لو طُوي العالم.. تطوي معه صفحته.
قالوا: مُزج الجسد بطمي النيل
قلنا: هذا ما ظل سنينا يحلم به..
قالوا: ما عاد الومض يشقُّ ستارَ الليل
قلنا: ألقُ الحب..
أخلدُ من ومض الليل..
قالوا: لا طائل منكم..
وانصرفوا
لكنا
سيظل بنا هذا العطشُ المحمومُ
إلي حلم لقاء!
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:39
ثرثرة فوق البحر المتوسط
إلي نجيب محفوظ
أحمد فضل شبلول
الجرائد لم تصل
والمحلات لم تفتح أبوابها بعد
والصباحات لم تجئ
والبحر..
غارق في ظلمة لا تنتهي
وأنا..
أعبر الكورنيش في يدي كتاب
معي..
هاتفي المحمول الذي أصيب بالخرس
منذ رحيل المعلم الفنان
في لقائنا..
لم يشرب من قهوته..
سوي وجهها
وضع الفنجان أمامي
لم أرتشف بقاياه
قلبَ الفنجان
وقال بصوت أبوي: اقرأ
فأخذت أثرثر فوق البحر
وأعدو..
وراء السمان المتكاثر في الآفاق
كان خريفي..
يتخفي خلف أغسطس
فهل كان معلمنا
يتخفي خلف النظارة مثلي..؟
لا أحد الآن يغني..
ماتت أناشيد الحرافيش
ومات الجبلاوي
تأتيني أصداء السيرة
فأصلي عليهم
في «ميرامار»
أسفل تمثال «سعد زغلول»
üüü
الجرائد لم تصل
ومحطة الرمل
تقف أمام سينما «الهمبرا»
في انتظار «الكرنك»
لكني أشاهد لصًا وكلابًا
يجرون أمام العرش
لم يكن اللص هو الأستاذ
بل.. أنا
üüü
أنا سعيد مهران
أحببت زُهرة
وجئتُ إلي «قشتمر»
لكي أخطبها
فعلمت بأن الأستاذ
يعيش في الحقيقة
وفي ليالي ألف ليلة
üüü
أنا عيسي الدباغ
أنا محتشمي زايد علوان
كنت البداية والنهاية
والقاهرة الجديدة
وأنا اللص الجديد الآن
فر الكلاب من الحديقة
بعد أن نهشوا الحقيقة
üüü
الجرائد لم تصل
والمحلات تفكر في فتح أبوابها
وأحمد عاكف
يسألني عن كتاب جديد
لم يصدر بعد
üüü
رششتُ الماء..
أمام سينما «مترو»
وجلست علي مقهي «بترو»
أنتظر السيد أحمد عبدالجواد
لأقول له:
«ملعون أبو الدنيا»
اهتز السيد في ضحكته
أخبرني ـ همسا ـ
أن أمينة حامل
فضحكت وقلت:
إنها أحلام فترة النقاهة
يصفعني سي السيد
أشكوه إلي الأستاذ
كان الاستاذ يحدّق في أفراح «أفراح القبة»
ويصلي في الحسين
وينام في «قصر الشوق»
أو العجوزة
üüü
أنا الشحاذ
جئت لكي أشحذ منك «السراب»
فرأيت نفسي في « المرايا »
مثل أحمد رمزي في «العوامة»
مع أني كافحت في «طيبة»
وطردت الهكسوس والغلمان
وبنيت الأهرام
تُطل علي كورنيش الروح
فيعلو صوت الباعة في الخان والزقاق
و«بحبك ياأبيض»
üüü
هطعت إلي الإسكندرية
«الإسكندرية أخيرا
قطر الندي
نفثة السحابة البيضاء
مهبط الشعاع المغسول بماء السماء
وقلب الذكريات المبللة
بالشهد والدموع»
üüü
أيها البحر
ها هي الشمس تسطع..
فوق مياهك الحبلي بالأمطار
ها هو سبتمبر قد هل علينا
بعد رحيل الأستاذ
فاجمع أوراقك يا بحر
وانتظر..
هطول المطر القادم.
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:40
أغنية الشمس
محمد أحمد حمد
شمس
من الكلمات الخضْر
لا اللهبِ
من كل هُدْبٍ كحيلٍ
كل سنبلةٍ
مضفورةٌ
من عروق القلب والعصب
من سُرة في سماء الشرق
قد سطعت
وامتد ّمطلعها
لكنها في سماء الغرب لم تغبِ
توهجت في فصول الكون
وانبثقت
في كل صدر
قناديلا من الطرب
نمت كروم المعاني
من توهجها
عنقود ضوء
وعنقودًا من العنب
في الشرق والغرب
يعطي الحب جائزة
لحسنها
في امتنان غير ذي أرَب
والضوء من كل نار جاء
منطفئٌ
إلا ضياء حروف ثرّة خُلقتْ
من ياسمين الهوي والسحر والتعب
نقشْتَها فوق وجه العصر
مزهرةً
نقش المسلات في مزهوة الحقب
يا مبدع الشمس من نثر أتيتَ به
أحلي من الشعر
طابت وهو لم يطبِ
أبحرت في قلب مصر واستمعتَ إلي
وعد الحنين
ورعد الرفض والغضب
وعدت بالسفن الملأي تحدثنا
شخوصها
عن كنوز القاع والرَّحبِ
أحييتَ قاهرة التاريخ
أبنيةً، شوارع تتداعي
في أزقتها أعدت خلق بنيها
أوجهًا ورؤي
وفي المقاهي، وفي الخانات والقُبب
حتي علي النيل، في عوامة خفيت
أعلنت ثرثرة للجيل باكية
كادت تضيع ـ مع الكتمان ـ في الصخب
وفي «الحرافيش» صغت العدل
ملحمة
يسّرته في زمان الظلم للغلَب
ِآثار مصر استطال الفخر في دمها
إذ زدتها أثرًا
لكن من الكتب
شيدت للنثر ـ دون الشعر ـ
مملكة
وصرت فيها مليكًا عالي النسب
والشاعرون تمادوا في مباذلهم
وراح بعضهمو
يهذي بشعر سقيم النثر مجتلب
حصي، خطوطًا، وأقواسًا مغلقة
محشوة بهشيم القش والحطب
يمد كفًا إلي الآفاق تزحمها
مواكب النجم والغيمات ساحرة
والبرق في شفتيها شهقة العجب
والضوء والظل والأقمار سارحة
فلا تصيد سوي ميت من الشهب
يُزري علي مصر أن ليست بشاعرة
ومصر في الشعر نهر الكوثر العذب
ويجمع العشبَ للتاريخ
يحرقه
ويكتب الشعر
أكواما من العشب
وحوله من ذباب الحقل
شرذمةٌ
يستمطرون غبارًا من دم السحب
طال اغترابي،
وطال الصمت في رئتي
علي غثاء
يصيب القلب بالوصب
ما جئت أشكو، ولكن
جئت أرفع في
أعراس مجدك
مجد الشعر في الأدب
تحية من زهو الصدق
أقطفها
لقلعة الضوء
أزجيها بلا كذب
آثرت أشدو بها
سكري مموْسقة
شدو الرعاة
بمزمار من القصب
فالشعر من غير موسيقي تحركه
نهر
بغير غناء الموج والحبب
فاهنأ بمجدك
لا تعبأ بحاسده
وأنت تُهدي جناح الشمس للعرب!
اسبيرانزا
14/01/2008, 19:42
إلي نجيب محفوظ
فوقية السحيمي
لمَ الأقلام مزقها النحيب
جموع المبدعين غدت حياري
لماذا يا رفاقي أري كتابي
ونوبلَ قد جفاها النوم لهفي
لمَ الآداب سارت في خشوع
عرفْتُ السر فالأستاذ يمشي
لمَ الأحزان والأستاذ باق
زقاق مدقه دوما مليء
حرافيش نجوم ساطعات
وحارته بها الأولاد تشدو
وآداب تسامت خالدات
سلوا الأدباء من يهدي خطاهم
سلوا دار الخيالة من شجاها؟
يجسد ما يقول وباقتدار
ألا انظر «سكريته» وسلها
فجسم «أمينة» قد جف عودا
«نعيمة» وردة في جوف قبر
وعيناها كنهر النيل زرقا
عزيزي لن أطيل عليك قولا
نجيب أنت باق في خلود
ألا في جنة الفردوس تهنا
وأطفأ شمسها قاسي الغروب؟
وتبحث عنه في كل الدروب
يريق الدمع يعتصر القلوب؟
بكل العشق تنتظر الحبيب
ولف الكون مكتمل الشحوب؟
يودع صحبه نحو المغيب
بقصر الشوق لم نره يغيب
بكل عظيمة فهو الأديب
وبدرهم المفوه والنجيب
بنوبل في الحضور وفي المغيب
تشيد بذكر محفوظ الحبيب
وللظمآن نبعهم الرطيب
تقول شجاني أستاذ أديب
كأنك تشهد القول العجيب
عن الأشخاص في ثقة تجيب
وشعر الرأس من هم يشيب
شباب غض لم يذق المشيب
تضاهي شباب عائشة السليب
فخير القول ما قال الأديب
تضيء طريق شبان وشيب
كنوزكمو ليرعاها الرقيب.
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة