dot
31/01/2008, 17:43
بقلم : علي عمران
مدخل:
ينطلق هذا البحث من دوافع الوقوف على ملامح الأساس الفلسفي لفكر انطون سعاده ،.. انطلاقا من الأيديولوجيا القومية الاجتماعية بكافة منظوماتها الفكرية .. إلى السياق التجريدي للقوانين الناظمة لها
ونرى من المفيد أن نشير مسبقا إلى عدد من النقاط التي تسهم في التوطئة للبحث :
· كتب سعاده معظم آثاره خلال الفترة التي تمتد من العشرينيات وحتى قبيل استشهاده عام 1949 . وتدل هوامش كتبه على انتخابه لمجموعة من المؤلفات في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع ينتمي مؤلفوها إلى مجتمعات ذات أنماط وفضاءات حضارية مختلفة (الولايات المتحدة الأميركية - بريطانيا - فرنسا - ألمانيا - إيطاليا - البرازيل) وأيضا الى مدارس فكرية متنوعة . لكنها في معظمها تندرج في سياق المذاهب العلمية التي ولدت تباعا في كنف الفلسفة ،.. وظهرت بملامحها الواضحة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والمنبثقة غالبا عن التيار الفكري الكبير المعروف باسم الفلسفة الوضعية التجريبية . وكانت واضحة بالنسبة لسعاده الأهمية البالغة لبلورة أفكاره على أسس فلسفية نزوعا منه إلى التمييز والوضوح في مرحلة شابتها فوضى العقائد التي تبني على مبادئ عرضية .. وأحياناً على شعارات رومانسية عابرة ، تولد ثم لا تلبث أن تذوي وتموت. وكان كتابه "نشوء الأمم" مؤلفا علميا مكثفا ودقيقا .. وربما الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يتضمن آراء واضحة في مسائل الإنسان والمجتمع والأمة وفلسفة التاريخ .
· معظم أبحاث سعاده غير المنشورة - من مخطوطات ومقالات إضافة إلى تعليقات وملاحظات - صودرت من قبل الأمن العام اللبناني ، وأحرقت في العام 1949 . وفيها مخطوطات كتابه "الفلسفة المدرحية " (1) وأبحاث في الاقتصاد القومي الاجتماعي.. وغيرهـا ، ولذلك لابد لأي باحث يتقصى فكر سعاده من الرجوع إلى آثاره المجموعة في (14) مجلدا ،.. والمتضمنة مجمل آرائه الفلسفية ، وقياساته المنطقية ، وملاحظاته هنا وهناك ،.. ولا شك أن ذلك يتطلب المزيد من الجهد والوقت في جميع الأحوال .
· يقول الدكتور يوسف مروة أن سعاده كان قد وجه خلال عامي 1932 – 1933 ثلاث رسائل فلسفية – كتبها باللغة الألمانية – إلى مجلة Enkenntnis - "المعرفة" يوم كانت تصدر عن دار الفلسفة في جامعة فيينا في النمسا . وهي لسان حال مجموعة فلاسفة كانوا يشكلون وقتها ما يسمى بـ "حلقة فيينا للإيجابيين المنطقيين" . وأن هذه الرسائل وجهت إلى رئيس تحرير تلك المجلة الفيلسوف الألماني المعاصر "هانس رايشنباخ" ، وهي تتضمن انتقادات سعاده للبرنامج الفلسفي المعتمد في هذه الحلقة ، والذي وضعه الفيلسوف "رودولف كاراناب"(2) .
· شارك سعاده كمحاضر ومحاور في العديد من المؤتمرات والندوات والمحافل الفلسفية في لبنان وإيطاليا والبرازيل والأرجنتين ، ومنها الندوة الفلسفية التي عقدت في جامعة روما بإيطاليا في 18 آب 1938 . وفي هذه الندوة يشار إلى نقاشه مع الفيلسوف الروسي "بيتر اوسبنكسي" مؤلف كتاب "النموذج الجديد للكون" . كما شارك أيضا في عدة ندوات فلسفية كانت تعقد في جامعة ريو دي جانيرو بين تشرين الثاني 1938 و أيار 1939. وفي محفوظات تلك الجامعة إشارات إلى حوارات جرت بينه وبين عدد من المفكرين كان أبرزهم "باولو ادوار ارنتس" أستاذ تاريخ الفلسفة في جامعة سان باولو، و"برادو دي مندونزا "استاز المتافيزيا في معهد الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة ريو دي جانيرو . و "باولوالكونرادو" أستاذ المنطق في المعهد المذكور و "ميرالدو أدولفو فيانا" أستاذ الفلسفة في المعهد نفسه .
ويذكر الدكتور مروة أن سعاده حاور الفيلسوف الاسباني "خوسيه اورتيغا أغاست" في جامعة قرطبة بالارجنتين في كانون الثاني 1940 (3).
مقدمة
منذ استشهاد سعاده وحتى الآن ظلت كلمات "المدرحية" ، "الفلسفة المدرحية" ، "المادية - الروحية" مجرد مصطلحات فوقية موحية بقدر ما هي مغلقة ، لكنها ليست ذات مضامين محددة ، خاصة أنها لم تنل حظها من الشرح ، فظلت في الغالب محل التباس وحيرة.. ليس في دلالاتها الفكرية فحسب ، بل أيضا فيما بني ويبنى عل هذه الدلالات من أفكار وآراء ذات مسحة فلسفية. فبعض هذه الآراء كان محكوما بحذر خاص خشية اقتراف الفلسفة لحساسيات سياسية، وبعضها الآخر جاء بدوافع سياسية مباشرة ، فمارس انحيازه على المدرحية ليقوّلها ما يشاء وليس ما تشاء . وفي العموم نقع على مزيج من الدراسات والآراء جاءت في غالبها متباينة متباعدة ومتناقضة بتناقض واختلاف المناهج الثقافية والأدوات المعرفية ،.. وربما الغايات النفسية والسياسية التي حكمت دوافع معظم هؤلاء الذين حاولوا على امتداد نصف القرن الماضي فتح نوافذ هذا السر الملغز على الجهة الفكرية والوجدانية التي ترضي كلاً منهم . وفي جميع الحالات نقع على مزيج من الدراسات تكتفي بالتأويل السهل لمدلول "المدرحية" فتزيف عمقها، أو ربما نقع على مقاربات تنسب عمارة سعاده الفكرية الى مختلف المذاهب والمدارس الفلسفية، من دون أن نجد في هذه المقاربات قياسات محددة بالوقائع والنصوص التي يفترض أن تتوفر في أي دراسة فلسفية تتوخى الدقة والإنصاف . والغريب في هذا المجال أننا لم نقع على دراسة تتقصى وتكتنه الأصول الفلسفية المنطقية التي انطلق منها سعاده الى مدرحيته . ولذلك ،.. لم يكن غريبا في جملة التأويلات أن نقف على حالات منها تصر أن سعاده شاء إنهاء الجدال التاريخي المتصارع الذي احتدم منذ السؤال الفلسفي الأول بين المذاهب " الروحية " والأخرى" المادية "فكان توفيقياً على طريقة "… فلتكن مادية – روحية ". ومثل هؤلاء يعتبرون ضمنيا أن سعاده ينطلق إلى مدرحيته من الاعتراف سلفا بمفهومي "المادة المطلقة المستقلة" و"الروح المطلقة المستقلة" على طريقة مذاهب العقلية والمثالية ، مع فارق بسيط يتجلى في التوفيق الكيفي بين أفكار المادية المثالية والروحية المثالية..(؟!). وفي أحسن الأحوال التوفيق بين ماركس وهيجل (حسب المدلول الذي يراه هؤلاء في كلمتي المادة والروح) . وثمة أمثلة كثيرة على هذه النزعة التبسيطية للمدرحية ،.. ففي معظم الأبحاث التي كتبت حول فلسفة سعاده منذ أواخر الستينات وحتى الوقت الحاضر تكمن مفارقة كبيرة ، إذ نجد باستمرار من يحاول توظيف هذا الفهم التوفيقي (المادية – الروحية) لدعم أراء لاهوتية وأخرى ذات منحى صوفي إشراقي ، وفي الجهة المقابلة هناك أكاديميون فضلوا البحث عن مبررات للماركسية في بناء سعاده الفكري (4). وثمة آخرون أصدروا أحكاما على المدرحية بموجب "مراسيم فلسفية" . فبدلا من دراستها كمنهج فلسفي فضلوا إلحاقها جزافا بالغامض من الفلسفات التي "نمت في الحوض الألماني" محكومة بغائيات مرحلية فرضتها سياسات عابرة (5) . لكن القليلين أدركوا أن فكر سعاده كان تأسيسا جديدا لفلسفة ذات نظرة مستقلة الى الإنسان والوجود (6) .
وهنا لابد من الإشارة الى ظاهرة خطيرة تستشري في مستوى الصفوة من المثقفين ومنتجي الثقافة ،.. تتجلى في نزوع تلقائي الى التسليم بأن الفكر الغربي عموما هو مصدر ثقافاتنا المعاصرة ومرجع علومنا الحديثة . ويمضي هذا التسليم بحتمية هذه التبعية الفكرية الى درجة فقدان الثقة والأمل بأن ينهض مفكر أو مبدع ليثبت العكس (!) ولذلك درجت العادة أن يقيس أرباب الثقافة في مجتمعاتنا كل إنتاج فكري إلى معيار آخر غربي ،.. وتمضي هذه النزعة تحت سطوة هذا الكم الهائل من الأكاديميات والأبحاث والمناهج المقتبسة عن الغرب حتى يكاد البعض يجزم بقصور قطعي للعقل الثقافي في مختلف أمم العالم العربي ، وبعدمية روحية تعيقه عن إنتاج خصوصيته الفكرية أدبا وفنونا وفلسفة ،.. إذ سرعان ما يتهافت تلامذة الترجمات والاقتباسات . أفراداً ومؤسسات . إلى نسبة أي إبداع جديد إلى عموميات شبه مطلقة تقع في نقطة ما من نتاجات العقل الغربي. ولا يخفى ما تعكسه مثل هذه الظاهرة من واقع الإحساس العام بالدونية والقصور والضعف، وعدم القدرة على التمييز ما بين الذات كنموذج إنساني .. وبين الآخر كنموذج مختلف وربما مغاير . كما لا تخفى أيضا الدوافع التي تفرضها عادة غريزة دفاع المقتبسين عن اقتباساتهم والمترجمين عن ترجماتهم، وخريجي الجامعات والمعاهد الغربية عن ولاءاتهم الفكرية للينابيع التي استقوا منها معارفهم ، وربما عن شهاداتهم العلمية (؟!)
السؤال الفلسفي التقليدي
في جميع الأحوال ،.. وفي مختلف الأزمنة والأمكنة كان الإنسان، بطريقة أو بأخرى، "قضية الفلسفة" غير أن موقعه في أي من مذاهبها ظل محكوما بطبيعة ومضمون السؤال الفلسفي ،.. بقدر ما هو محكوم بطبيعة الإجابة عليه .
ولا شك أن استمرار الفكر الإنساني محكوماً بالإجابة على السؤال الفلسفي الأساسي التقليدي ذاته لقرون طويلة كان واحدا من المؤشرات الهامة على علاقة هذا السؤال بفكر لاهوتي. فالعقل الذي سأل : "من وجد قبل الآخر ، المادة ام الروح؟" كان يفتش عن الغامض المطلق الذي كان " علة " وجود الإنسان. وهذا يفسر على مر العصور كيف تحولت معظم الفلسفات إلى عقائد لصيقة بأنماط الفكر اللاهوتي في بعديه الإيماني والإلحادي ، اذ شكل هذان البعدان قطبين متناقضين في فضاء عقل مهجوس بغموض المطلقات (الطبيعة ، الغيب) وعلاقتها بكينونته .
هكذا ،.. بدأ سقف حوار الأفكار منخفضا وأدنى من قيمة الانسان،.. وفي جميع الإجابات الفلسفية كان موقع الإنسان محكوما بالعلة المطلقة التي كانت سببا لوجوده. فـ "الإنسان" في الفلسفات المادية إمكانية تحقق قوانين المادة . وهو في الفلسفات الروحية " إمكانية إيمانية " تخضع خضوعاً تاماً لقوانين الروح المطلقة. وبقدر ما كانت المسافة شاسعة بين مثالية المادية ومثالية الروح .. بقدر ما كان على العقل الإنساني أن يبذل من الجهد لملء هذه الفجوة الفاصلة بين القطبين النقيضين (المادة والروح) بالفكر الجديد.
مدخل:
ينطلق هذا البحث من دوافع الوقوف على ملامح الأساس الفلسفي لفكر انطون سعاده ،.. انطلاقا من الأيديولوجيا القومية الاجتماعية بكافة منظوماتها الفكرية .. إلى السياق التجريدي للقوانين الناظمة لها
ونرى من المفيد أن نشير مسبقا إلى عدد من النقاط التي تسهم في التوطئة للبحث :
· كتب سعاده معظم آثاره خلال الفترة التي تمتد من العشرينيات وحتى قبيل استشهاده عام 1949 . وتدل هوامش كتبه على انتخابه لمجموعة من المؤلفات في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع ينتمي مؤلفوها إلى مجتمعات ذات أنماط وفضاءات حضارية مختلفة (الولايات المتحدة الأميركية - بريطانيا - فرنسا - ألمانيا - إيطاليا - البرازيل) وأيضا الى مدارس فكرية متنوعة . لكنها في معظمها تندرج في سياق المذاهب العلمية التي ولدت تباعا في كنف الفلسفة ،.. وظهرت بملامحها الواضحة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والمنبثقة غالبا عن التيار الفكري الكبير المعروف باسم الفلسفة الوضعية التجريبية . وكانت واضحة بالنسبة لسعاده الأهمية البالغة لبلورة أفكاره على أسس فلسفية نزوعا منه إلى التمييز والوضوح في مرحلة شابتها فوضى العقائد التي تبني على مبادئ عرضية .. وأحياناً على شعارات رومانسية عابرة ، تولد ثم لا تلبث أن تذوي وتموت. وكان كتابه "نشوء الأمم" مؤلفا علميا مكثفا ودقيقا .. وربما الكتاب الأول في اللغة العربية الذي يتضمن آراء واضحة في مسائل الإنسان والمجتمع والأمة وفلسفة التاريخ .
· معظم أبحاث سعاده غير المنشورة - من مخطوطات ومقالات إضافة إلى تعليقات وملاحظات - صودرت من قبل الأمن العام اللبناني ، وأحرقت في العام 1949 . وفيها مخطوطات كتابه "الفلسفة المدرحية " (1) وأبحاث في الاقتصاد القومي الاجتماعي.. وغيرهـا ، ولذلك لابد لأي باحث يتقصى فكر سعاده من الرجوع إلى آثاره المجموعة في (14) مجلدا ،.. والمتضمنة مجمل آرائه الفلسفية ، وقياساته المنطقية ، وملاحظاته هنا وهناك ،.. ولا شك أن ذلك يتطلب المزيد من الجهد والوقت في جميع الأحوال .
· يقول الدكتور يوسف مروة أن سعاده كان قد وجه خلال عامي 1932 – 1933 ثلاث رسائل فلسفية – كتبها باللغة الألمانية – إلى مجلة Enkenntnis - "المعرفة" يوم كانت تصدر عن دار الفلسفة في جامعة فيينا في النمسا . وهي لسان حال مجموعة فلاسفة كانوا يشكلون وقتها ما يسمى بـ "حلقة فيينا للإيجابيين المنطقيين" . وأن هذه الرسائل وجهت إلى رئيس تحرير تلك المجلة الفيلسوف الألماني المعاصر "هانس رايشنباخ" ، وهي تتضمن انتقادات سعاده للبرنامج الفلسفي المعتمد في هذه الحلقة ، والذي وضعه الفيلسوف "رودولف كاراناب"(2) .
· شارك سعاده كمحاضر ومحاور في العديد من المؤتمرات والندوات والمحافل الفلسفية في لبنان وإيطاليا والبرازيل والأرجنتين ، ومنها الندوة الفلسفية التي عقدت في جامعة روما بإيطاليا في 18 آب 1938 . وفي هذه الندوة يشار إلى نقاشه مع الفيلسوف الروسي "بيتر اوسبنكسي" مؤلف كتاب "النموذج الجديد للكون" . كما شارك أيضا في عدة ندوات فلسفية كانت تعقد في جامعة ريو دي جانيرو بين تشرين الثاني 1938 و أيار 1939. وفي محفوظات تلك الجامعة إشارات إلى حوارات جرت بينه وبين عدد من المفكرين كان أبرزهم "باولو ادوار ارنتس" أستاذ تاريخ الفلسفة في جامعة سان باولو، و"برادو دي مندونزا "استاز المتافيزيا في معهد الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة ريو دي جانيرو . و "باولوالكونرادو" أستاذ المنطق في المعهد المذكور و "ميرالدو أدولفو فيانا" أستاذ الفلسفة في المعهد نفسه .
ويذكر الدكتور مروة أن سعاده حاور الفيلسوف الاسباني "خوسيه اورتيغا أغاست" في جامعة قرطبة بالارجنتين في كانون الثاني 1940 (3).
مقدمة
منذ استشهاد سعاده وحتى الآن ظلت كلمات "المدرحية" ، "الفلسفة المدرحية" ، "المادية - الروحية" مجرد مصطلحات فوقية موحية بقدر ما هي مغلقة ، لكنها ليست ذات مضامين محددة ، خاصة أنها لم تنل حظها من الشرح ، فظلت في الغالب محل التباس وحيرة.. ليس في دلالاتها الفكرية فحسب ، بل أيضا فيما بني ويبنى عل هذه الدلالات من أفكار وآراء ذات مسحة فلسفية. فبعض هذه الآراء كان محكوما بحذر خاص خشية اقتراف الفلسفة لحساسيات سياسية، وبعضها الآخر جاء بدوافع سياسية مباشرة ، فمارس انحيازه على المدرحية ليقوّلها ما يشاء وليس ما تشاء . وفي العموم نقع على مزيج من الدراسات والآراء جاءت في غالبها متباينة متباعدة ومتناقضة بتناقض واختلاف المناهج الثقافية والأدوات المعرفية ،.. وربما الغايات النفسية والسياسية التي حكمت دوافع معظم هؤلاء الذين حاولوا على امتداد نصف القرن الماضي فتح نوافذ هذا السر الملغز على الجهة الفكرية والوجدانية التي ترضي كلاً منهم . وفي جميع الحالات نقع على مزيج من الدراسات تكتفي بالتأويل السهل لمدلول "المدرحية" فتزيف عمقها، أو ربما نقع على مقاربات تنسب عمارة سعاده الفكرية الى مختلف المذاهب والمدارس الفلسفية، من دون أن نجد في هذه المقاربات قياسات محددة بالوقائع والنصوص التي يفترض أن تتوفر في أي دراسة فلسفية تتوخى الدقة والإنصاف . والغريب في هذا المجال أننا لم نقع على دراسة تتقصى وتكتنه الأصول الفلسفية المنطقية التي انطلق منها سعاده الى مدرحيته . ولذلك ،.. لم يكن غريبا في جملة التأويلات أن نقف على حالات منها تصر أن سعاده شاء إنهاء الجدال التاريخي المتصارع الذي احتدم منذ السؤال الفلسفي الأول بين المذاهب " الروحية " والأخرى" المادية "فكان توفيقياً على طريقة "… فلتكن مادية – روحية ". ومثل هؤلاء يعتبرون ضمنيا أن سعاده ينطلق إلى مدرحيته من الاعتراف سلفا بمفهومي "المادة المطلقة المستقلة" و"الروح المطلقة المستقلة" على طريقة مذاهب العقلية والمثالية ، مع فارق بسيط يتجلى في التوفيق الكيفي بين أفكار المادية المثالية والروحية المثالية..(؟!). وفي أحسن الأحوال التوفيق بين ماركس وهيجل (حسب المدلول الذي يراه هؤلاء في كلمتي المادة والروح) . وثمة أمثلة كثيرة على هذه النزعة التبسيطية للمدرحية ،.. ففي معظم الأبحاث التي كتبت حول فلسفة سعاده منذ أواخر الستينات وحتى الوقت الحاضر تكمن مفارقة كبيرة ، إذ نجد باستمرار من يحاول توظيف هذا الفهم التوفيقي (المادية – الروحية) لدعم أراء لاهوتية وأخرى ذات منحى صوفي إشراقي ، وفي الجهة المقابلة هناك أكاديميون فضلوا البحث عن مبررات للماركسية في بناء سعاده الفكري (4). وثمة آخرون أصدروا أحكاما على المدرحية بموجب "مراسيم فلسفية" . فبدلا من دراستها كمنهج فلسفي فضلوا إلحاقها جزافا بالغامض من الفلسفات التي "نمت في الحوض الألماني" محكومة بغائيات مرحلية فرضتها سياسات عابرة (5) . لكن القليلين أدركوا أن فكر سعاده كان تأسيسا جديدا لفلسفة ذات نظرة مستقلة الى الإنسان والوجود (6) .
وهنا لابد من الإشارة الى ظاهرة خطيرة تستشري في مستوى الصفوة من المثقفين ومنتجي الثقافة ،.. تتجلى في نزوع تلقائي الى التسليم بأن الفكر الغربي عموما هو مصدر ثقافاتنا المعاصرة ومرجع علومنا الحديثة . ويمضي هذا التسليم بحتمية هذه التبعية الفكرية الى درجة فقدان الثقة والأمل بأن ينهض مفكر أو مبدع ليثبت العكس (!) ولذلك درجت العادة أن يقيس أرباب الثقافة في مجتمعاتنا كل إنتاج فكري إلى معيار آخر غربي ،.. وتمضي هذه النزعة تحت سطوة هذا الكم الهائل من الأكاديميات والأبحاث والمناهج المقتبسة عن الغرب حتى يكاد البعض يجزم بقصور قطعي للعقل الثقافي في مختلف أمم العالم العربي ، وبعدمية روحية تعيقه عن إنتاج خصوصيته الفكرية أدبا وفنونا وفلسفة ،.. إذ سرعان ما يتهافت تلامذة الترجمات والاقتباسات . أفراداً ومؤسسات . إلى نسبة أي إبداع جديد إلى عموميات شبه مطلقة تقع في نقطة ما من نتاجات العقل الغربي. ولا يخفى ما تعكسه مثل هذه الظاهرة من واقع الإحساس العام بالدونية والقصور والضعف، وعدم القدرة على التمييز ما بين الذات كنموذج إنساني .. وبين الآخر كنموذج مختلف وربما مغاير . كما لا تخفى أيضا الدوافع التي تفرضها عادة غريزة دفاع المقتبسين عن اقتباساتهم والمترجمين عن ترجماتهم، وخريجي الجامعات والمعاهد الغربية عن ولاءاتهم الفكرية للينابيع التي استقوا منها معارفهم ، وربما عن شهاداتهم العلمية (؟!)
السؤال الفلسفي التقليدي
في جميع الأحوال ،.. وفي مختلف الأزمنة والأمكنة كان الإنسان، بطريقة أو بأخرى، "قضية الفلسفة" غير أن موقعه في أي من مذاهبها ظل محكوما بطبيعة ومضمون السؤال الفلسفي ،.. بقدر ما هو محكوم بطبيعة الإجابة عليه .
ولا شك أن استمرار الفكر الإنساني محكوماً بالإجابة على السؤال الفلسفي الأساسي التقليدي ذاته لقرون طويلة كان واحدا من المؤشرات الهامة على علاقة هذا السؤال بفكر لاهوتي. فالعقل الذي سأل : "من وجد قبل الآخر ، المادة ام الروح؟" كان يفتش عن الغامض المطلق الذي كان " علة " وجود الإنسان. وهذا يفسر على مر العصور كيف تحولت معظم الفلسفات إلى عقائد لصيقة بأنماط الفكر اللاهوتي في بعديه الإيماني والإلحادي ، اذ شكل هذان البعدان قطبين متناقضين في فضاء عقل مهجوس بغموض المطلقات (الطبيعة ، الغيب) وعلاقتها بكينونته .
هكذا ،.. بدأ سقف حوار الأفكار منخفضا وأدنى من قيمة الانسان،.. وفي جميع الإجابات الفلسفية كان موقع الإنسان محكوما بالعلة المطلقة التي كانت سببا لوجوده. فـ "الإنسان" في الفلسفات المادية إمكانية تحقق قوانين المادة . وهو في الفلسفات الروحية " إمكانية إيمانية " تخضع خضوعاً تاماً لقوانين الروح المطلقة. وبقدر ما كانت المسافة شاسعة بين مثالية المادية ومثالية الروح .. بقدر ما كان على العقل الإنساني أن يبذل من الجهد لملء هذه الفجوة الفاصلة بين القطبين النقيضين (المادة والروح) بالفكر الجديد.