dot
02/02/2008, 15:17
بقلم: احمد الاغـر جديــد
1. تقديم:
سهاد فتاة عزباء، مسلمة، في الخامسة والعشرين من العمر، متوسطة القامة (162 سم) والقد. غالبًا ما نراها ما ترتدي ثيابًا جذابة متناسقة بشكل غير مبالغ به مع جسدها الذي يحمل معاني أنثوية واضحة. تتحدَّر من أسرة محافظة بعض الشيء. يعمل والدها في الجمارك ووالدتها في التعليم الابتدائي. لها شقيقتان وشقيق: سلوى، أكبر منها بسنتين، وسعاد، أصغر بثلاثة؛ أما وائل فيصغرها بثلاثة عشر سنة. وجميعهم متعلِّمون. تسكن سهاد في منزل مُكترى في بيروت، بعيدًا عن أهلها في طرابلس، مع شقيقتها الصغيرة وزميلتها.
التقيت بها في معرض الكتاب هذه السنة عندما اعترضتْ انشغالي بإنهاء عمل على الحاسوب وألقت عليَّ التحية. لم أميز في البداية فيما إذا كان الصوت القادم من خلفي ذكريًّا أم أنثويًّا. كانت تسريحة شعرها مرتفعة، وزينة وجهها تنم عن ذوق رفيع، وتفوح منها رائحة عطر الباريسي. لغتُها المفضلة للتواصل في العمل هي العربية الممزوجة ببعض الكلمات الفرنسية؛ ويظهر هذا خاصة عندما تريد التكلم في الأمور الحميمة.
نتيجة للتلعثم في حديثها دعوتُها لتناول فنجان قهوة لتريح أعصابها قليلاً حتى أستطيع أن أفهم تماما ماذا تريد من المؤسسة التي كنت أعمل بها (مؤسسة ألعاب تربوية للأطفال). وبدا عليها الارتباك في تصرفاتها، والتشتت في عرض مجموعة من المواضيع دفعة واحدة. تكلَّمتْ بلهجة غير واثقة؛ وكانت تعتمد على إظهار أنوثتها حتى تصل إلى ما تريد، وهو أن أتبرع لها ببعض الهدايا لصالح إدارة المعرض حيث كانت تعمل. انتهت سريعًا من تدخين سيجارة أمريكية وانصرفت على أن تعود بعد قليل.
لم تأتِ. وشاءت المصادفة في اليوم التالي أن نلتقي وقت الغذاء. كانت قد انتهت من تناول وجبتها، واقتربتْ من طاولتي، طالبة أن أشعل لها سيجارتها. قبلت ذلك بسرور، وجلسنا لنشرب القهوة مرة أخرى. وعندما عرفت أنني في السنة الرابعة من دراسة علم النفس أبدت – بحسب تعبيرها – "شوقًا للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل". أبديت موافقتي واهتمامي، خصوصًا بعد أن طالعتْني ببعض الشكاوى الجسدية التي تعاني منها (ربو، انخفاض في الضغط، وهن نتيجة العمل). واتفقنا أن نلتقي عند انتهاء فترة المعرض. أخذت رقم هاتفي ووعدتني بالاتصال بي.
لم تتصل سهاد وانقضى أسبوعان قبل أن تفاجئني بزيارة إلى الجامعة. كانت الزيارة قصيرة جدًّا؛ وقد بدا عليها الارتباك التام ولمسة من الحزن تخيم على وجهها. حددت لي موعدًا، واختارت منزلي لتخبرني عن مشاكلها وعن سبب حزنها. رحَّبتُ باختيارها بهدوء، مع إحساسي بجدية طلبها هذه المرة.
2. تقنية الالتماس:
لقد كان اختياري لتقنية كارل روجرز في الالتماس مبنيًّا على عدة أمور: فالعميلة سهاد قد اختارت بنفسها أن تأتي إلى الاستشارة؛ كما أنني لاحظت لديها ارتباكًا في تصرفاتها، وتوقعت، نتيجة لذلك، أن هذه التقنية (التي تسمح للعميل بالتعبير الحرِّ المباشر عن مشاكله ومشاعره) قد تساعدها في تفريغ التوتر والارتباك، لا سيما وأن الثقة التي أبدتْها في اختيارها الحرِّ لمنزلي لإجراء المقابلات قد فتحت بابًا للثقة المطلوبة بين المعالج أو الملتمس–العميل. ومن جانبي، لم أشأ أن أغلق هذا الباب، أو أن أستغل الضعف الذي بدا عليها عند قدومها إلى جامعتي، باتباعي تقنية تُشعِر العميل بأنه أكثر ضعفًا. كما أن التناسق والتناغم الخارجي في مظهرها قد أوحى إليَّ برغبة في داخلها لحدوث مثل هذا التناغم في شخصيتها. إن هذه الرغبة داخلها في التناغم والتنظيم هي مفتاح أساسي للعلاج، بحسب تقنية روجرز: إنها توازي الرغبة في العلاج، التي هي بداية العلاج فعلاً. بدت سهاد متحررة نوعًا ما؛ ولذلك قد ترفض أن يطبَّق عليها علاجٌ يكون فيه المعالِج أو الملتمَس ممثلاً – بشكل قوي – للسلطة الأبوية أو الاجتماعية. "وشوقها للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل" دليل على أنها ربما لا تجد في معارفها وأصدقائها من يصغي إليها ويستمع إلى حديثها؛ وهذه التقنية تعطي، مع الوقت، اطمئنانًا لدى العميل بأن كلامه مُصغى إليه، مما قد يساعده أكثر في التعبير عن مشاعره. ولهذا أيضًا كان اختياري لهذه التقنية.
اللقاء الأول – المشاكل والصعوبات التي واجهتني خلال الدراسة:
قبل أن أتحدث عن الصعوبات والمشاكل، سأتحدث عن اللقاء الأول الذي ابتدأت معه هذه الصعوبات. لم تتأخر العميلة عن موعد اللقاء سوى بضع دقائق. دخلت وقد بدا عليها الحياد. رحَّبتُ بها، وطلبتُ أن نبدأ الجلسة. قمت بعرض لبعض الشروط (دون أن أسميها "شروطًا"، إنما أشياء يجب معرفتها): فهي حرة في اختيار مواضيعها وعرض مشاكلها والتعبير عن مشاعرها؛ ومهمتي ستقتصر على سماع وتسجيل ما تقول – لأنني "نسَّاء" بعض الشيء، كما قلت لها – كما أني غير معني بإعطاء الأحكام والآراء الاجتماعية الخلقية السلبية أو الإيجابية. أخبرتُها أن مدة الجلسة هي في حدود الساعة، وطلبت منها الجلوس أمام الطاولة، وجلست بشكل يتقاطع مع جلستها، ورفضت أن أسجل عبر آلة تسجيل، مفضلاً أن أكتب.
بدأت الجلسة بسؤال مني عن أيِّ شيء تريد أن تخبرني إياه؟ وبسرعة كان جوابها معبِّرًا عن انزعاجها من التدخين: "إنه بيخنقني وعم بيزيد من حالة الربو عندي" – رغم أنها ابتدأت بإشعال سيجارة. كما عبَّرتْ عن فشلها في التوقف عنه، أو حتى التخفيف منه، كلما قررت ذلك: "وبصير بزيده كلما أحسست بحزن وزعل." توقفت قليلاً، ثم أضافت" "زاد تدخيني من وقت ما بدأت أحكي مع عفيف." استفسرتُ عمَّن هو عفيف هذا. وهنا انطلقتْ في الحديث عنه حتى نهاية اللقاء حديثًا مشحونًا بشحنات عاطفية انفعالية، تخلَّله الكثير من الشرود والوصف والتأمل وبعض الإحساس بالحزن. وعفيف هذا شاب جذاب جدًّا، يعمل معها في نفس المؤسسة؛ التقت به في نهاية الصيف وأُعجِبَتْ به بسرعة. وكان حديثها مركزًا على العلاقة العاطفية التي مرت بها معه، وكيف "حلمتُ فيه ورسمت له صورة كثير أكبر مما هو". ولكن "بس زرت أهله... انقلب... وعندها حسِّيت بالضياع". توقفتْ قليلاً، نظرتْ بغضب، ثم تابعت: "الفراغ اللي كنت عم أعيشه هو اللي خلاني أرسم له صورة أكبر مما يستاهل." وتابعت تفريغها لمشاعرها: "كنت فاكرته ملتزم... طلع ما بيفهم بالدين. إنسان متحفظ وبدون أي مبرر... بس لأنو بيئته البيروتية بتقول له هيك... لأجله ما باخد واحد بيروتي... وبعدين هو بيحب المَرَه اللي بالبيت؛ وأنا ما بناسبُه مثل ما قللي لأنو متحررة، وهو بيخاف من هيك بنت".
وقد استطعت أن أفهم من حديثها أن عفيف هو مَن بادر بإنهاء العلاقة عندما أخبرها أنها "لا تناسبه"، وأنها "وحدة عايشة لحالها ومتحررة كتير". وعندما تحدثت سهاد عن ذلك الأمر كان واضحًا عليها الغضب والانفعال والانزعاج، حتى إنها راحت تطفئ السيجارة بعصبية واضحة، وأخذت تراقبني كيف أكتب، وبتوتر مستمر. وأردت أن تتابع تفريغها لهذه المشاعر، فسألتها عن النتيجة. وهنا تغير موقفها من الحزن الغاضب المنفعل إلى المستهزئ؛ ولكنها تابعت التفريغ ووصفته: "هو تافه... أفرغ وأتفه مما كنت متوقعة... حتى رفقاته كلهم تافهين مثله." وأضافت بعد فترة من السكوت: "كنت متوقعة أزعل كثير، بس تاني يوم كل شي راح." وأضافت: "أنا بعرف حالي... لما بنعجب بسرعة بواحد بنسى بسرعة."
عندما انتهت سهاد من تفريغ مشاعرها بدأت بالحديث عن نفسها، مبدية ثقة واعتدادًا لا يستهان بهما بالنفس، وأضافت موضحة: "أنا بحب الشخص اللي بتعلم منه... وعفيف مش هيك أبدًا... وبعدين رفقاته كلهم من طرابلس، وأنا ما باخد واحد من طرابلس... أنا بعرف حالي منيح بس أنفر من شخص ما بعود قادرة على أنو اتحمل ريحته."
طالت الجلسة، فأردت إنهاءها، وسألتها عما إذا كانت تريد أن تضيف شيئًا آخر. وكانت كلماتها الأخيرة تدور حول شعورها بالانتصار: "انتصرت عليه... بس قلت له أخيرًا أنو واحد تافه." انتهت الجلسة. وكان أول تعليق لديها هو استغرابها من حديثها الطويل عن عفيف، على الرغم من أن هذا الموضوع عندها "كتير تافه" – كما علَّقتْ. وكانت ردة فعلي أن قلت لها: "فلنفكر إذن في ذلك."
تأويل اللقاء الأول – الانطباع الأول:
مع أن شكوى العميلة كانت في البداية جسدية (تدخين وربو) إلا أنها لم تلبث أن استبدلت بها أخرى انفعالية (حنق وغضب من عفيف). ويحتاج الأمر إلى قليل من الملاحظة حتى نعرف أن العميلة تعاني من مشكلة في الزواج، حيث إنها أبدت رفضها القاطع لإمكانية الزواج من أيِّ شخص من بيروت ومن طرابلس – علمًا أن مجال تنقُّلها الدائم هو بين هاتين المدينتين حصرًا.
إن اعتبار الإعجاب السريع، يليه النفور السريع، خاصية من طبيعتها قد يعطينا مؤشرًا على أنها قد تعرضتْ إلى الكثير من مثل هذه العلاقات في حياتها التي تنتابها فيها المشاعر المتنافرة. إن فترة 3 أشهر غير كافية لإنسان في مثل عمرها لكي يقع في غرام شخص آخر، ثم، وبسرعة، ينقلب حبه إلى كره عظيم – إلا إذا كان هذا الإنسان نفسه يعاني من مشكلة في تنافر المشاعر في دخيلته.
وعلى عكس ما قالت في ختام اللقاء بأن موضوع عفيف كان تافهًا، سنرى، فيما بعد، كيف أن هذه الحادثة وهذا الاستغراب كان بابًا تفتحه العميلة على داخلها لفهمه وتقبُّله أكثر.
الصعوبات والمشاكل:
حتى ذلك الوقت كنت أعتقد أن الأمور تسير وستسير على ما يرام. وعلى هذا الأساس، طلبتُ منها أن تحدِّد موعدًا جديدًا. وفعلاً حدَّدتْه بعد يومين فقط. وقبلت ذلك بسرور. إلا أنني حقيقة لم أفهم لماذا لم تأتِ إلى الموعد الجديد. اتصلتُ بها مستفسرًا، فقالت إنها مريضة ولن تستطيع الخروج، وأنها أوكلت إلى شقيقتها مهمة الاتصال بي، رغم أن شقيقتها لم تتصل أبدًا.
لم أبدِ لها انزعاجي، بل طلبت منها أن تكون حريصة في المرة القادمة على إخباري بذلك بنفسها فيما لو حصل أيُّ تأخير أو إلغاء للجلسات. تجاوبتْ مع هذا الطلب وحددتْ موعدًا جديدًا في نفس الموعد الأول، أي بعد خمسة أيام.
وكما المرة السابقة، لم تأتِ سهاد. فكرتُ طويلاً قبل أن أتصل بها. ثم حسمت أمري وفعلت. وكان الجواب عندها أن لديها الكثير من العمل غير المنجز بعد، وأنها طبعًا لن تستطيع أن تأتي. أسفت لذلك، وطلبت مني أن أتصل بها بعد ساعتين حتى تكون قادرة على تحديد موعد جديد. ولكنها هذه المرة لم ترد حتى على اتصالي.
لن أخفي شعوري بالغبن وقتها. ولكنني سرعان ما استعدت توازني وفسرت هذا السلوك (تهربها) بأنها تبدي مقاومة شديدة تجاه العلاج، على عكس ما بدا عليها سابقًا. لقد أصبح من المنطقي أن نفهم أن لدى هذه الفتاة مشكلة حقيقية – وإلا لما أظهرت مثل هذه المقاومة.
فكرتُ طويلاً في معاودة الاتصال، لكنني لم أتصل، وفضلت أن أنتظر ثلاثة أسابيع، حتى عادت سهاد واتصلت مرة أخرى. استقبلتُها بمودة وعتب خفيف. طلبت أن تراني خارج المنزل في أحد المقاهي. وعندما التقيت بها حاولت أن أعرف منها سبب ما حصل. كان ردُّها بأنها شعرت بعد الجلسة شعورًا معاكسًا لما شعرتْ به من راحة داخلها – شعرت وكأن شخصًا ما (أنا) قد احتلَّها وكشف جَوَّاها. وللتخلص من هذا الشعور احتاجت إلى 3 أسابيع حتى تصبح قادرة على مناقشة الأمر معي مرة ثانية. عبَّرتْ عن انزعاجها من التسجيل الذي كنت أقوم به، والوضعية التي جلست بها؛ ولكن، في الوقت ذاته، عبَّرتْ عن أن لديها الكثير لتخبرني إياه، وأنها لا تعرف ما يجب عليها فعله. فهي لن تتقبل تكرار الجلسات، كما حصلت سابقًا. وعند سؤالي لها عن الحل أجابتْني، وكأن فكرة مهمة خطرت على بالها للتو: "دعنا نلتقي ونتكلَّم عن مشاكلي، دون أن نتقيد بتقنياتك الصعبة. ربما وقتها أشعر بالراحة أكثر وأستطيع أن أستمر." أبديتُ موافقتي، على الرغم من أنني أعرف أن ذلك أمر عسير عليَّ؛ ولكنه كان السبيل الوحيد لجعلها تستمر في الحديث. واتفقنا على موعد، في منزلها هذه المرة. ولم أتأخر عليه.
1. تقديم:
سهاد فتاة عزباء، مسلمة، في الخامسة والعشرين من العمر، متوسطة القامة (162 سم) والقد. غالبًا ما نراها ما ترتدي ثيابًا جذابة متناسقة بشكل غير مبالغ به مع جسدها الذي يحمل معاني أنثوية واضحة. تتحدَّر من أسرة محافظة بعض الشيء. يعمل والدها في الجمارك ووالدتها في التعليم الابتدائي. لها شقيقتان وشقيق: سلوى، أكبر منها بسنتين، وسعاد، أصغر بثلاثة؛ أما وائل فيصغرها بثلاثة عشر سنة. وجميعهم متعلِّمون. تسكن سهاد في منزل مُكترى في بيروت، بعيدًا عن أهلها في طرابلس، مع شقيقتها الصغيرة وزميلتها.
التقيت بها في معرض الكتاب هذه السنة عندما اعترضتْ انشغالي بإنهاء عمل على الحاسوب وألقت عليَّ التحية. لم أميز في البداية فيما إذا كان الصوت القادم من خلفي ذكريًّا أم أنثويًّا. كانت تسريحة شعرها مرتفعة، وزينة وجهها تنم عن ذوق رفيع، وتفوح منها رائحة عطر الباريسي. لغتُها المفضلة للتواصل في العمل هي العربية الممزوجة ببعض الكلمات الفرنسية؛ ويظهر هذا خاصة عندما تريد التكلم في الأمور الحميمة.
نتيجة للتلعثم في حديثها دعوتُها لتناول فنجان قهوة لتريح أعصابها قليلاً حتى أستطيع أن أفهم تماما ماذا تريد من المؤسسة التي كنت أعمل بها (مؤسسة ألعاب تربوية للأطفال). وبدا عليها الارتباك في تصرفاتها، والتشتت في عرض مجموعة من المواضيع دفعة واحدة. تكلَّمتْ بلهجة غير واثقة؛ وكانت تعتمد على إظهار أنوثتها حتى تصل إلى ما تريد، وهو أن أتبرع لها ببعض الهدايا لصالح إدارة المعرض حيث كانت تعمل. انتهت سريعًا من تدخين سيجارة أمريكية وانصرفت على أن تعود بعد قليل.
لم تأتِ. وشاءت المصادفة في اليوم التالي أن نلتقي وقت الغذاء. كانت قد انتهت من تناول وجبتها، واقتربتْ من طاولتي، طالبة أن أشعل لها سيجارتها. قبلت ذلك بسرور، وجلسنا لنشرب القهوة مرة أخرى. وعندما عرفت أنني في السنة الرابعة من دراسة علم النفس أبدت – بحسب تعبيرها – "شوقًا للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل". أبديت موافقتي واهتمامي، خصوصًا بعد أن طالعتْني ببعض الشكاوى الجسدية التي تعاني منها (ربو، انخفاض في الضغط، وهن نتيجة العمل). واتفقنا أن نلتقي عند انتهاء فترة المعرض. أخذت رقم هاتفي ووعدتني بالاتصال بي.
لم تتصل سهاد وانقضى أسبوعان قبل أن تفاجئني بزيارة إلى الجامعة. كانت الزيارة قصيرة جدًّا؛ وقد بدا عليها الارتباك التام ولمسة من الحزن تخيم على وجهها. حددت لي موعدًا، واختارت منزلي لتخبرني عن مشاكلها وعن سبب حزنها. رحَّبتُ باختيارها بهدوء، مع إحساسي بجدية طلبها هذه المرة.
2. تقنية الالتماس:
لقد كان اختياري لتقنية كارل روجرز في الالتماس مبنيًّا على عدة أمور: فالعميلة سهاد قد اختارت بنفسها أن تأتي إلى الاستشارة؛ كما أنني لاحظت لديها ارتباكًا في تصرفاتها، وتوقعت، نتيجة لذلك، أن هذه التقنية (التي تسمح للعميل بالتعبير الحرِّ المباشر عن مشاكله ومشاعره) قد تساعدها في تفريغ التوتر والارتباك، لا سيما وأن الثقة التي أبدتْها في اختيارها الحرِّ لمنزلي لإجراء المقابلات قد فتحت بابًا للثقة المطلوبة بين المعالج أو الملتمس–العميل. ومن جانبي، لم أشأ أن أغلق هذا الباب، أو أن أستغل الضعف الذي بدا عليها عند قدومها إلى جامعتي، باتباعي تقنية تُشعِر العميل بأنه أكثر ضعفًا. كما أن التناسق والتناغم الخارجي في مظهرها قد أوحى إليَّ برغبة في داخلها لحدوث مثل هذا التناغم في شخصيتها. إن هذه الرغبة داخلها في التناغم والتنظيم هي مفتاح أساسي للعلاج، بحسب تقنية روجرز: إنها توازي الرغبة في العلاج، التي هي بداية العلاج فعلاً. بدت سهاد متحررة نوعًا ما؛ ولذلك قد ترفض أن يطبَّق عليها علاجٌ يكون فيه المعالِج أو الملتمَس ممثلاً – بشكل قوي – للسلطة الأبوية أو الاجتماعية. "وشوقها للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل" دليل على أنها ربما لا تجد في معارفها وأصدقائها من يصغي إليها ويستمع إلى حديثها؛ وهذه التقنية تعطي، مع الوقت، اطمئنانًا لدى العميل بأن كلامه مُصغى إليه، مما قد يساعده أكثر في التعبير عن مشاعره. ولهذا أيضًا كان اختياري لهذه التقنية.
اللقاء الأول – المشاكل والصعوبات التي واجهتني خلال الدراسة:
قبل أن أتحدث عن الصعوبات والمشاكل، سأتحدث عن اللقاء الأول الذي ابتدأت معه هذه الصعوبات. لم تتأخر العميلة عن موعد اللقاء سوى بضع دقائق. دخلت وقد بدا عليها الحياد. رحَّبتُ بها، وطلبتُ أن نبدأ الجلسة. قمت بعرض لبعض الشروط (دون أن أسميها "شروطًا"، إنما أشياء يجب معرفتها): فهي حرة في اختيار مواضيعها وعرض مشاكلها والتعبير عن مشاعرها؛ ومهمتي ستقتصر على سماع وتسجيل ما تقول – لأنني "نسَّاء" بعض الشيء، كما قلت لها – كما أني غير معني بإعطاء الأحكام والآراء الاجتماعية الخلقية السلبية أو الإيجابية. أخبرتُها أن مدة الجلسة هي في حدود الساعة، وطلبت منها الجلوس أمام الطاولة، وجلست بشكل يتقاطع مع جلستها، ورفضت أن أسجل عبر آلة تسجيل، مفضلاً أن أكتب.
بدأت الجلسة بسؤال مني عن أيِّ شيء تريد أن تخبرني إياه؟ وبسرعة كان جوابها معبِّرًا عن انزعاجها من التدخين: "إنه بيخنقني وعم بيزيد من حالة الربو عندي" – رغم أنها ابتدأت بإشعال سيجارة. كما عبَّرتْ عن فشلها في التوقف عنه، أو حتى التخفيف منه، كلما قررت ذلك: "وبصير بزيده كلما أحسست بحزن وزعل." توقفت قليلاً، ثم أضافت" "زاد تدخيني من وقت ما بدأت أحكي مع عفيف." استفسرتُ عمَّن هو عفيف هذا. وهنا انطلقتْ في الحديث عنه حتى نهاية اللقاء حديثًا مشحونًا بشحنات عاطفية انفعالية، تخلَّله الكثير من الشرود والوصف والتأمل وبعض الإحساس بالحزن. وعفيف هذا شاب جذاب جدًّا، يعمل معها في نفس المؤسسة؛ التقت به في نهاية الصيف وأُعجِبَتْ به بسرعة. وكان حديثها مركزًا على العلاقة العاطفية التي مرت بها معه، وكيف "حلمتُ فيه ورسمت له صورة كثير أكبر مما هو". ولكن "بس زرت أهله... انقلب... وعندها حسِّيت بالضياع". توقفتْ قليلاً، نظرتْ بغضب، ثم تابعت: "الفراغ اللي كنت عم أعيشه هو اللي خلاني أرسم له صورة أكبر مما يستاهل." وتابعت تفريغها لمشاعرها: "كنت فاكرته ملتزم... طلع ما بيفهم بالدين. إنسان متحفظ وبدون أي مبرر... بس لأنو بيئته البيروتية بتقول له هيك... لأجله ما باخد واحد بيروتي... وبعدين هو بيحب المَرَه اللي بالبيت؛ وأنا ما بناسبُه مثل ما قللي لأنو متحررة، وهو بيخاف من هيك بنت".
وقد استطعت أن أفهم من حديثها أن عفيف هو مَن بادر بإنهاء العلاقة عندما أخبرها أنها "لا تناسبه"، وأنها "وحدة عايشة لحالها ومتحررة كتير". وعندما تحدثت سهاد عن ذلك الأمر كان واضحًا عليها الغضب والانفعال والانزعاج، حتى إنها راحت تطفئ السيجارة بعصبية واضحة، وأخذت تراقبني كيف أكتب، وبتوتر مستمر. وأردت أن تتابع تفريغها لهذه المشاعر، فسألتها عن النتيجة. وهنا تغير موقفها من الحزن الغاضب المنفعل إلى المستهزئ؛ ولكنها تابعت التفريغ ووصفته: "هو تافه... أفرغ وأتفه مما كنت متوقعة... حتى رفقاته كلهم تافهين مثله." وأضافت بعد فترة من السكوت: "كنت متوقعة أزعل كثير، بس تاني يوم كل شي راح." وأضافت: "أنا بعرف حالي... لما بنعجب بسرعة بواحد بنسى بسرعة."
عندما انتهت سهاد من تفريغ مشاعرها بدأت بالحديث عن نفسها، مبدية ثقة واعتدادًا لا يستهان بهما بالنفس، وأضافت موضحة: "أنا بحب الشخص اللي بتعلم منه... وعفيف مش هيك أبدًا... وبعدين رفقاته كلهم من طرابلس، وأنا ما باخد واحد من طرابلس... أنا بعرف حالي منيح بس أنفر من شخص ما بعود قادرة على أنو اتحمل ريحته."
طالت الجلسة، فأردت إنهاءها، وسألتها عما إذا كانت تريد أن تضيف شيئًا آخر. وكانت كلماتها الأخيرة تدور حول شعورها بالانتصار: "انتصرت عليه... بس قلت له أخيرًا أنو واحد تافه." انتهت الجلسة. وكان أول تعليق لديها هو استغرابها من حديثها الطويل عن عفيف، على الرغم من أن هذا الموضوع عندها "كتير تافه" – كما علَّقتْ. وكانت ردة فعلي أن قلت لها: "فلنفكر إذن في ذلك."
تأويل اللقاء الأول – الانطباع الأول:
مع أن شكوى العميلة كانت في البداية جسدية (تدخين وربو) إلا أنها لم تلبث أن استبدلت بها أخرى انفعالية (حنق وغضب من عفيف). ويحتاج الأمر إلى قليل من الملاحظة حتى نعرف أن العميلة تعاني من مشكلة في الزواج، حيث إنها أبدت رفضها القاطع لإمكانية الزواج من أيِّ شخص من بيروت ومن طرابلس – علمًا أن مجال تنقُّلها الدائم هو بين هاتين المدينتين حصرًا.
إن اعتبار الإعجاب السريع، يليه النفور السريع، خاصية من طبيعتها قد يعطينا مؤشرًا على أنها قد تعرضتْ إلى الكثير من مثل هذه العلاقات في حياتها التي تنتابها فيها المشاعر المتنافرة. إن فترة 3 أشهر غير كافية لإنسان في مثل عمرها لكي يقع في غرام شخص آخر، ثم، وبسرعة، ينقلب حبه إلى كره عظيم – إلا إذا كان هذا الإنسان نفسه يعاني من مشكلة في تنافر المشاعر في دخيلته.
وعلى عكس ما قالت في ختام اللقاء بأن موضوع عفيف كان تافهًا، سنرى، فيما بعد، كيف أن هذه الحادثة وهذا الاستغراب كان بابًا تفتحه العميلة على داخلها لفهمه وتقبُّله أكثر.
الصعوبات والمشاكل:
حتى ذلك الوقت كنت أعتقد أن الأمور تسير وستسير على ما يرام. وعلى هذا الأساس، طلبتُ منها أن تحدِّد موعدًا جديدًا. وفعلاً حدَّدتْه بعد يومين فقط. وقبلت ذلك بسرور. إلا أنني حقيقة لم أفهم لماذا لم تأتِ إلى الموعد الجديد. اتصلتُ بها مستفسرًا، فقالت إنها مريضة ولن تستطيع الخروج، وأنها أوكلت إلى شقيقتها مهمة الاتصال بي، رغم أن شقيقتها لم تتصل أبدًا.
لم أبدِ لها انزعاجي، بل طلبت منها أن تكون حريصة في المرة القادمة على إخباري بذلك بنفسها فيما لو حصل أيُّ تأخير أو إلغاء للجلسات. تجاوبتْ مع هذا الطلب وحددتْ موعدًا جديدًا في نفس الموعد الأول، أي بعد خمسة أيام.
وكما المرة السابقة، لم تأتِ سهاد. فكرتُ طويلاً قبل أن أتصل بها. ثم حسمت أمري وفعلت. وكان الجواب عندها أن لديها الكثير من العمل غير المنجز بعد، وأنها طبعًا لن تستطيع أن تأتي. أسفت لذلك، وطلبت مني أن أتصل بها بعد ساعتين حتى تكون قادرة على تحديد موعد جديد. ولكنها هذه المرة لم ترد حتى على اتصالي.
لن أخفي شعوري بالغبن وقتها. ولكنني سرعان ما استعدت توازني وفسرت هذا السلوك (تهربها) بأنها تبدي مقاومة شديدة تجاه العلاج، على عكس ما بدا عليها سابقًا. لقد أصبح من المنطقي أن نفهم أن لدى هذه الفتاة مشكلة حقيقية – وإلا لما أظهرت مثل هذه المقاومة.
فكرتُ طويلاً في معاودة الاتصال، لكنني لم أتصل، وفضلت أن أنتظر ثلاثة أسابيع، حتى عادت سهاد واتصلت مرة أخرى. استقبلتُها بمودة وعتب خفيف. طلبت أن تراني خارج المنزل في أحد المقاهي. وعندما التقيت بها حاولت أن أعرف منها سبب ما حصل. كان ردُّها بأنها شعرت بعد الجلسة شعورًا معاكسًا لما شعرتْ به من راحة داخلها – شعرت وكأن شخصًا ما (أنا) قد احتلَّها وكشف جَوَّاها. وللتخلص من هذا الشعور احتاجت إلى 3 أسابيع حتى تصبح قادرة على مناقشة الأمر معي مرة ثانية. عبَّرتْ عن انزعاجها من التسجيل الذي كنت أقوم به، والوضعية التي جلست بها؛ ولكن، في الوقت ذاته، عبَّرتْ عن أن لديها الكثير لتخبرني إياه، وأنها لا تعرف ما يجب عليها فعله. فهي لن تتقبل تكرار الجلسات، كما حصلت سابقًا. وعند سؤالي لها عن الحل أجابتْني، وكأن فكرة مهمة خطرت على بالها للتو: "دعنا نلتقي ونتكلَّم عن مشاكلي، دون أن نتقيد بتقنياتك الصعبة. ربما وقتها أشعر بالراحة أكثر وأستطيع أن أستمر." أبديتُ موافقتي، على الرغم من أنني أعرف أن ذلك أمر عسير عليَّ؛ ولكنه كان السبيل الوحيد لجعلها تستمر في الحديث. واتفقنا على موعد، في منزلها هذه المرة. ولم أتأخر عليه.