ayhamm26
22/02/2008, 22:47
زكريا شيخو مهنّا
الحدث السياسي، في سوريا، كان وما يزال يتمتع بخصوصيات معينة استُمدّت، أساساً من منشأ هذه السياسة ألا وهو الحرب الباردة. وإن كان يمكن فهم مظاهر هذه السياسة وعلاقاتها في العقود الثلاثة الماضية، فإن قراءتها الآن، بالوجه ذاته، أمرٌ يثير أكثر من استفهام، بل ما فوق السؤال ذاته إلى الاستهجان وشيء من النفور. وهي حال الوضع السياسي السوري الآن الذي بات نموذجاً غير مسبوق للتناقض والتفكك البنيوي الحاد الذي لم تشهده سوريا حتى وهي في عز صراعها مع خصومها الإيديولوجيين كالإخوان المسلمين وجماعة اليسار البلشفي. سوريا الجديدة، الآن، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد ثورة الاتصالات وتغير العالم هي أقرب ما تكون إلى سوريا الرخوة، حتى إلى ما قبل الراحل حافظ الأسد. فكيف يمكن فهم الأمر؟ وكيف استطاع حافظ الأسد أن يستدين من حلفائه لا أن يرهن لهم الورق السوري بالكامل حتى بدا السياسي السوري الحالي، سياسي الحكم، مجرد موظف تنفيذي للعبة تحالف جعلت من العلاقة مع إيران مثلاًً تغييبياً للخصوصية السورية ومسخاً لشخصيتها العربية إلى درجة بدا فيها الحكم السوري الجديد، بزعامة بشار الأسد، الوريث، من دون خلفية داعمة مقتنعة بأدائه وأولوياته حتى في الوسط العلوي الذي انحدر منه الأسد الابن الذي بسبب ميول تشيع معينة طلق حتى ارتباطه الطائفي وباتت الطائفة العلوية في سوريا، إلى جانب الطوائف الأخرى، تشعر بأن بشار مجرد لعبة في تحالف خسر فيه العلويون قبل السنة، والعرب قبل الكرد.
مناعة الأسد واستجابة الشبل
الراحل حافظ الأسد ترك بصمة لن ينساها تاريخ السياسة المعاصرة. فقد أدخل العلويين في العروبة من خلال "البعث" وأشركهم في التعامل مع التاريخ الإسلامي كمحتوى حضاري لهم يمنحهم الهوية والكينونة السياسية. في الحقيقة كان لهذا الأثر أن يخرج العلويين من احتمال "جيتو" مفترض، وهذا ما حدث أيام الأسد الأب. إلى درجة أنه وبعد تحالفه مع الثورة الإيرانية الخمينية لم يكن يسمح لأي أثر طائفي شيعي بالتغلغل في أوساطهم، على اعتبار أن الإسلام السائد، إسلام العروبة، هو موئل العلويين وأي أقلية عانت ظلم العثمانيين. وأبناء الطائفة العلوية يعرفون أنه بعدما تسلل بعض "المبشرين" الشيعة الإيرانيين إلى أوساط الطائفة العلوية في الثمانينات من القرن الماضي، من خلال ستار المكتبات وتمويل "منشورات آل البيت"، وخلسة عن أعين رجال الأمن الذين كانوا يحملون تعليمات صارمة وقاطعة بمنع أي وجه من وجوه التشييع، يعرف الجميع أن عدداً من هؤلاء الداعين إلى التشيع قد تم التضييق عليهم وحتى التصفية كما حصل مع أحد الأطباء من مدينة طرطوس الساحلية في آخر ثمانينات القرن الماضي. ونمتنع عن ذكر اسم الطبيب بطلب من عائلته الكريمة.
حافظ الأسد كان يتعامل مع العروبة كمخلص نهائي لإشراك أقليات الإسلام في الدولة والتاريخ العربي الحديث. ونجح نجاحاً منقطع النظير. إذا صار العلويون يعتبرون أنفسهم جزءاً من التاريخ السياسي للمنطقة وجزءاً من حراكها العربي الفاعل. وإلا كيف يمكن فهم التحالف الإيراني – السوري في الثمانينات والتسعينات وفي الوقت ذاته علاقة عربية سورية في أفضل حالاتها؟ وكان مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية إعلاناً نهائياً عن إمساك الراحل الأسد بالورقة الإيرانية لا إمساكها به. فكان مثلاً ، التنسيق السوري المصري السعودي يدير لعبة السياسة الإقليمية في أعلى كفاءة. والجميع يذكر دور المملكة العربية السعودية سواء في المسألة اللبنانية أو العراقية أو الإيرانية، وكله في تفاهم عالٍ مع الأسد الأب. ذلك أنه، أي الأسد الأب، وهو العروبي، يعتبر الإسلام العربي، في مختلف مصادره، هو مولد الكينونة وحامل الشخصية السياسية الأساسي. فكان يَتحدث عن دمشق، أنذاك، بقلب للعروبة. ولم يكن في الأمر مبالغة تذكر. كل خصوم الأسد الأب لا يستطيعون إلا الاعتراف بتعريبه للسياسة السورية، ومنها مناطقيتها وأقلياتها.
التبشير الشيعي
الآن، في عهد الأسد الابن، فارقٌ مروع. حصل شيءٌ لا يُصدق. إذ إن الدكتور بشار الأسد استلم السلطة عبر غطاء عربي سريع منحه شرعية مباشرة من خلال زيارات الرئيس المصري حسني مبارك وولي العهد السعودي – أنذاك – الملك الحالي عبدالله بن عبدالعزيز، وأيضاً من خلال قراءة أميركية إيجابية له كطبيب منفتح يفترض أن تنتقل معه سوريا إلى ما بعد الحرب الباردة. ومع أن بشار الأسد استلم السلطة مترافقة مع انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني، وما يفترضه الأمر من تحول نوعي نحو المؤسسات والعمل المدني، فوجئ المراقبون كيف أن العلماني المفترض - بصفة بشار الأسد طبيب تعلم في الغرب وابن لحافظ الأسد - فوجئ المراقبون بتحول العلماني دينياً غارقاً في تحالف طائفي خلع أبواب سوريا أمام الحلف الذي بات شريكاً بحصة الأسد، وبات الأسد، ومعه الجمهورية العربية السورية، بحصة عصفور، فتقدمت إيران في سوريا وتراجعت عاصمة الأمويين إلى الخلف، وشخص السني إلى نفسه التي جُردت من كبريائها الشامية التي منحها بنو أمية كل عوامل الرفعة والإحساس بالامتلاء. وشخص العلوي إلى نفسه ليرى أن الأسد الابن أهدى الجمهورية العربية إلى الجمهورية الفارسية، والجمهورية العلمانية إلى الجمهورية الشيعية. لم يعلم الأسد الابن أن للأمر حساسية مذهبية تفوق حساسيته الطائفية، فالعلويون الذين يكفرون شيعياً باعتبارهم "منحرفين ضالين ومبتدعي كفر التجسيد" لن يتقبلوا أن يأتي مكفرهم ليهددهم تهديداً لم يتلقه العلوي حتى في زمن الدولة العثمانية. الآن يأتي "المبشر" الشيعي إلى قراهم في اللاذقية وجبلة وطرطوس ويشتمهم ويكفرهم مدعوماً من الدولة ومدعوماً بغطاء حماية التشيع للمقاومة. في عدد من قرى "جبلة" العلوية بات الناس يشتكون علناً من الاختراق الإيراني لإسلامهم العربي الذي قدمه لهم حافظ الأسد بصفته عروبة ذات أساس ديني موحد.
ضيوف وشتائم
أكمل الأسد الابن رحلة التحالف مع إيران، إلا أنه فقد أي مقاومة تذكر بالحفاظ على وجه سوريا العربي. لقد بات السوريون ينفرون من مئات الآلاف من الإيرانيين الذين يأتون دمشق لزيارة السيدة زينب ثم يشتمون العاصمة علناً أمام أهلها (!) ينزل الإيراني الآن من الحافلة التي تقله من المطار إلى دمشق ويقول بالحرف الواحد: "لعن الله فلان وفلان وفلان يا أهل الشام" – لم نستطع العمل بمقولة ناقل الكفر ليس بكافر إذ يمنعنا التأدب حتى من ذكر المشتومين الذين هم وحدهم بناة هذه الدولة التي دخلها الحاج الإيراني وشتم أهلها أمام أعينهم.
كل التركة العربية التي خلفها الراحل الأسد الأب بددها الأسد الابن وبات الحال، يشبه حال العرب بعيد سقوط بني أمية وطرد آخر ملوكهم ومن ثم قتله. العربي الآن في دمشق مصدر شتيمة وبغضاء. لماذا؟ لأنه ليس "مقاومة" إيرانية. ابن دمشق الآن ينتظر اعترافاً من طهران بحبه لفلسطين وللإسلام؟ في زمن الأسد الأب كانت كلمة "العربي" مجال فخر واعتزاز إنما وفي عهد بشار الأسد صار العربي درجة أدنى. من يصدق ذلك؟ صار العربي مرادفاً للتخاذل وللتخلي عن فلسطين. هكذا بسياسة استلحاق واستتباع كسا الغبار وجه سوريا وبات لا يدخلها العربي إلا مضطراً. تلك عبقرية التحالف الذي يحولك إلى ورقة ويخلعك عن باب أمتك. لو قام الأسد الأب من قبره ورأى حال سوريا على يد ابنه الرئيس لأصابه الذهول وغرقٍ في تفجع لا نهاية له لأن ما خُرب أكبر بكثير من قدرة أي بنّاء على الترميم.
خيارات العلويين في ظل سياسة بشار
وضعت الطائفة العلوية الآن في عهد الأسد الابن أمام خيارات نقوصية عالية، فإما تتنازل عن التركة العروبية التي أسسها حافظ الأسد وتعود إلى حصنها المنغلق وإما تدخل في سباق مع الكينونة وترى التشيع حلاً واسعاً؟ في زمن الأسد الأب، وبسبب التداخل المنطقي بين العروبة والإسلام، حدث نوع من "التسنن" النسبي أو الكامل لدى العديد من الأسر العلوية وبات نظام الصلاة لديهم تماماً كالمعمول به في الإسلام الأكثري، السني. وباتت العائلات العلوية التقليدية تتسابق على إظهار إسلامها الظاهري واعتناقه بحرفيته ودخلت أسماء "خالد" و "أبو بكر" إلى مسميات أبنائهم باعتبار خالد نموذج عروبة وأبي بكر خليفة شرعياً. وباتت الأصوات تعلو من داخل الطائفة العلوية بأن الكثير من معتقداتهم القروسطية صارت عبئاً على "العلوي" الجديد الذي رأى في الإسلام الظاهري، إسلام الأكثرية، وعاءً أيديولوجياً عالي القيمة. حتى أن رجال الدين كانوا يشتكون في الثمانينات من طلاب الجامعة العلويين الذين "يشعرون بالخجل" من سب وشتم الخلفاء أو عبادة القمر والشمس. وكانت النكات والطرف تتخلل المجتمع العلوي عن كل طقوس التعبد والعقائد. وهذا أمرٌ معروف للجميع وبسبب قوة الدفع العروبي الذي أسس له حافظ الأسد مما سهل على كثر من المترددين بالاتجاه إلى إسلام منفتح علني يتفق عليه الكل من حولهم.
مشكلة العلوي الآن أكبر وأكثر تعقيداً. فقد أعادهم التغلغل الإيراني والتبشير الشيعي إلى الصفر، باستغلال جهل بشار في كل هذه القضايا. إذ إن العلوي الذي تجاوز مرحلة احتقار التاريخ إلى تمجيده، وشتم الصانع إلى احترامه، دخل الآن في تردد مدمر بسب عودة ثقافة شتم العرب وشتم الإسلام الأكثري إلى ثقافته. فماذا سيفعل الآن؟ هل سيعود إلى اعتبار عمر بن الخطاب وأبي بكر وعثمان "شياطين"؟ هل سيقرأ التاريخ الإسلامي بصفته مؤامرة على عائلة مقدسة تمت تصفيتها؟ سؤال قاسٍ يقلق المتابع لوضع الطائفة العلوية التي أوصلها ضعف شخصية بشار وجهله بالمدى اللامنظور للسياسة إلى هذا الوضع الواهن الذي سبق وتجاوزته مع نهاية الستينات.
على الرغم من الحرب الدامية التي وقعت بين نظام الأسد الأب والإخوان المسلمين في الثمانينات. وللتأكيد على سعة الإسلام الأكثري مع الطائفة العلوية يجب التذكير أنه في كل تاريخ الحرب بين الأسد الأب والإخوان المسلمين لم تنفجر سيارة مفخخة واحدة في أي منطقة علوية على الإطلاق؟ فهل يحتاج اللبيب إلى أكثر من إشارة ليفهم بأن مشكلة الإسلاميين مع النظام كانت سياسية وإقليمية ولم تكن طائفية وإلا ما سرّ هذا الامتناع (ولله الحمد طبعاً) عن ضرب أي تجمع علوي في الوقت الذي كانت تنفجر فيه السيارات في دمشق وحلب؟ العلويون أدركوا هذه المسألة منذ ولادتها وانتبهوا إلى أن مدنهم وقراهم كانت أسهل للاختراق من العاصمة ورغم ذلك لم يقترب منها إخواني واحد؟ وهذا سرّ اتجاه كثير من أبناء العائلات العلوية إلى "التسنن" بعد ما لاحظوا أنه على الرغم من قسوة رد فعل النظام على الإخوان عبر قصف مدينة "حماه" كان من الممكن أن يأتي انتقام إخواني – سني منهم ورغم ذلك لم تنفجر أي سيارة أو قذيفة في بيوتهم وأحيائهم. حتى أن أهل السنة في مدينة جبلة اللاذقانية ذات الأكثرية العلوية كانوا لا يكتفون فقط بتقديم التعازي إذا قتل ضابط علوي أو مواطن علوي عادي على يد الإخوان المسلمين؟ بل كان سنة "جبلة" يشرفون على العزاء مباشرة كما لو أنهم أهل الفقيد تماماً ولا يعرف الغريب إلا أنهم أهله وليسوا ضيوفاً للتعزية. هذه هي أخلاق مدرسة الأسد الأب والذي لم نكن نظن يوماً أن نخط مقالاً في امتداحه بهذا الحجم إلا أن حال سوريا على يد ابنه جعلت الكل على الأقل يقول: رحم الله أيامك يا حافظ الأسد لمن تركت سوريا؟!.
لهذا يعرف المهتمون المراقبون أن تحولاً بنيوياً طرأ على علاقة العلوي مع محيطه أنذاك وبات، مثلاً الشيخ السني هو الذي يعقد القران في الزيجات العلوية وليس الشيخ العلوي، وكذلك امتناع أغلب الفئات الشابة والمتعلمة حتى عن مجرد تعلم الديانة العلوية. وأيضاً ازدياد ظاهرة تزويج العلويين بناتهم لرجال من السنة. وطبعاً ليس القصد الدعوة إلى أن يغير الناس عقائدهم بل الإشارة إلى الظرف والمساحة الحرة التي تسمح لهم بالاختيار العقلي
"مقاومة" التعريب
الحالة الآن معكوسة وقد انقسم الشارع العلوي إلى فئتين أساسيتين في مرحلة الأسد الابن وهما: الأولى، وهي الشريحة التي تأثرت بالمد العروبي، ومن ثم الإسلامي، لأن العروبة تستبطن الإسلام بُنية، وتعاني الآن قلقا باديا فإما اتجاه نحو التطرف العلماني عبر الإلحاد وإما الغرق في التبشير الشيعي الذي بات يحاصر قراهم وفلاحيهم عبر جاذبية المال والنفوذ. أما الثانية، فهي الأخطر، فهي اكتشفت أن التبشير الشيعي أعادها إلى المربع الأول، ثقافة اللعن والخروج من التاريخ والانقلاب على الدولة، فانقسمت بدورها إلى خيارين اثنين، الخيار الأول عبر عودة إلى الأصول العلوية الأولى وما تشمله من ارتياب وفرقة وخروج من التاريخ، الخيار الثاني عبر التشيع. وهي الفئة التي نجح التبشير الشيعي باستمالتها من خلال جاذبية المقاومة ومعنى الحسين شهيداً حتى تداخل الأمر وبدت المقاومة كما لو أنها استعادت لشخصية الحسينية ومدلولها في اللاشعور السياسي ليصبح المقاوم – الحسيني – نضالاً بوجه الهوية، الدولة، والتي تشتم من اللحظة الأولى لدخول الإيراني على مطار دمشق علناً وأمام الناس وحادثة التعارك بالأيدي التي حصلت بين موظف جمارك وأحد السياح الدينيين الإيرانيين عام 2006 في مطار دمشق أشهر من أن تكذب إذ انبرى السائح الشيعي بشتم معاوية وبعض الخلفاء بصوت عالٍ مما حدا بموظف المطار أن يقول له "يا ابن الكلب جاي على بلدي وتشتم خلفائي" وهجم عليه وضربه وتدخل بعضٌ من السياح الإيرانيين الآخرين وحسم الأمر لصالح السائح ذاك وعوقب موظف المطار بنقله إلى فئة أقل مهنياً وعقوبات أخرى (!) هذا نموذج لعبقرية بشار الأسد بإعادة العلويين إلى العصر ما قبل الصناعي وتحويل الشوام (أهل دمشق) إلى غرباء في عاصمتهم. كل ذلك ما كان ليحصل أيام ذكاء سوريا الأب وحنكة المملكة العربية السعودية ومرونة مصر العرب. كان هذا المثلث العروبي متراساً مشرقياً قاوم الحرب الباردة وخرج بأقل الخسائر وأكبر الانتصارات: إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقف الدعم عن النظام العراقي السابق، إرغام أوروبا على فك عزلتها التي فرضتها وقت ذاك على النظام السوري الحافظي.
اعتقد بشار أن التركيز السياسي على اللغة العربية كما يرد في خطاباته، يستطيع أن يعيد وهج سوريا العربية. خطأ جديد. اللغة ليست قواعد إملاء وإعراب. اللغة ثقافة وطريقة تفكير وخلق ونظام حياة. ماذا سينفع السوريون إذا أدخلت العربية إلى مناهجهم بكثافة بينما هم خارج العروبة وباتوا إما ضدها وإما لا يعرفونها؟!
انقلاب الأسد الابن على "الطائف"
بينما أنهى الأسد الأب مع المملكة ومصر الحرب الأهلية اللبنانية عبر أشهر اتفاق عربي – عربي أسس له العرب وأرغم الغرب على قبوله، نجد الآن عمل الأسد الابن على تفكيك اتفاق الطائف من خلال العمل على إذكاء الحرب الأهلية اللبنانية الآن (للمصادفة!). وبعد احتواء الحرب العراقية الإيرانية يعمل بشار الآن على تصدير الانتحاريين إلى العراق (للمصادفة). وبعد أن استطاع التلاحم العربي العربي (سورياً وسعودياً ومصرياً) أن يفك العزلة السورية عن أوروبا والعالم نرى بشار الآن أغرق سوريا في مستنقع عزلة لا مثيل له (وهو الآخر بالمصادفة). كما لو أن بشار يمثل ثورة على والده، فأبوه أخرج المساجين في التسعينات، وبشار أعادهم إليه في الألفية الثالثة (الآن حتى طلاب الباكالوريا يدخلون السجن)، حافظ الأسد وفي عز البلشفية والاشتراكية افتتح بيده فندق الشيراتون عام 1974م ، بشار الآن يفتتح مدارس التبشير الشيعي مقدماً لها الشرعية بكل فجاجة وبلا حياء.
بانتظار الخلاص
إذا انقلبت سوريا في عهد بشار الأسد على الطائف وأذكت الحرب اللبنانية التي يعد لها الآن، وإذا خرجت سوريا من صف التضامن العربي، وإذا أسقط في يد العلويين فلم يعرفوا اتجاهاً إلا الالتفاف حول التبشير الشيعي بوجه "آل أمية" وإذا يشتم الشامي في داره فماذا يكون محصل هذه السياسة التي رهنت نفسها لمشروع الغير وباتت حتى عبئاً عليه لغياب أي مبادرة ذاتية منه. الحل بيد السوريين أنفسهم. ورثة العروبة ومنتجوها. أهلها وبيتها. هؤلاء الذين قال عنهم الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل: "ألحقوا الدنيا ببستان هشام". باتوا الآن ملحقين وليس ببستان، بل بثقافة مغلقة تريد أن تعيد التاريخ إلى لحظة قابيل وهو يقتل أخاه هابيل. هذا جزء بسيط من جردة سياسة الدكتور بشار الأسد الذي لم يتبق من سوريا إلا صوره هو بدون أي ابتسامة أو حتى أدنى ثقة بالنفس.
المصدر موقع ايلاف
الحدث السياسي، في سوريا، كان وما يزال يتمتع بخصوصيات معينة استُمدّت، أساساً من منشأ هذه السياسة ألا وهو الحرب الباردة. وإن كان يمكن فهم مظاهر هذه السياسة وعلاقاتها في العقود الثلاثة الماضية، فإن قراءتها الآن، بالوجه ذاته، أمرٌ يثير أكثر من استفهام، بل ما فوق السؤال ذاته إلى الاستهجان وشيء من النفور. وهي حال الوضع السياسي السوري الآن الذي بات نموذجاً غير مسبوق للتناقض والتفكك البنيوي الحاد الذي لم تشهده سوريا حتى وهي في عز صراعها مع خصومها الإيديولوجيين كالإخوان المسلمين وجماعة اليسار البلشفي. سوريا الجديدة، الآن، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد ثورة الاتصالات وتغير العالم هي أقرب ما تكون إلى سوريا الرخوة، حتى إلى ما قبل الراحل حافظ الأسد. فكيف يمكن فهم الأمر؟ وكيف استطاع حافظ الأسد أن يستدين من حلفائه لا أن يرهن لهم الورق السوري بالكامل حتى بدا السياسي السوري الحالي، سياسي الحكم، مجرد موظف تنفيذي للعبة تحالف جعلت من العلاقة مع إيران مثلاًً تغييبياً للخصوصية السورية ومسخاً لشخصيتها العربية إلى درجة بدا فيها الحكم السوري الجديد، بزعامة بشار الأسد، الوريث، من دون خلفية داعمة مقتنعة بأدائه وأولوياته حتى في الوسط العلوي الذي انحدر منه الأسد الابن الذي بسبب ميول تشيع معينة طلق حتى ارتباطه الطائفي وباتت الطائفة العلوية في سوريا، إلى جانب الطوائف الأخرى، تشعر بأن بشار مجرد لعبة في تحالف خسر فيه العلويون قبل السنة، والعرب قبل الكرد.
مناعة الأسد واستجابة الشبل
الراحل حافظ الأسد ترك بصمة لن ينساها تاريخ السياسة المعاصرة. فقد أدخل العلويين في العروبة من خلال "البعث" وأشركهم في التعامل مع التاريخ الإسلامي كمحتوى حضاري لهم يمنحهم الهوية والكينونة السياسية. في الحقيقة كان لهذا الأثر أن يخرج العلويين من احتمال "جيتو" مفترض، وهذا ما حدث أيام الأسد الأب. إلى درجة أنه وبعد تحالفه مع الثورة الإيرانية الخمينية لم يكن يسمح لأي أثر طائفي شيعي بالتغلغل في أوساطهم، على اعتبار أن الإسلام السائد، إسلام العروبة، هو موئل العلويين وأي أقلية عانت ظلم العثمانيين. وأبناء الطائفة العلوية يعرفون أنه بعدما تسلل بعض "المبشرين" الشيعة الإيرانيين إلى أوساط الطائفة العلوية في الثمانينات من القرن الماضي، من خلال ستار المكتبات وتمويل "منشورات آل البيت"، وخلسة عن أعين رجال الأمن الذين كانوا يحملون تعليمات صارمة وقاطعة بمنع أي وجه من وجوه التشييع، يعرف الجميع أن عدداً من هؤلاء الداعين إلى التشيع قد تم التضييق عليهم وحتى التصفية كما حصل مع أحد الأطباء من مدينة طرطوس الساحلية في آخر ثمانينات القرن الماضي. ونمتنع عن ذكر اسم الطبيب بطلب من عائلته الكريمة.
حافظ الأسد كان يتعامل مع العروبة كمخلص نهائي لإشراك أقليات الإسلام في الدولة والتاريخ العربي الحديث. ونجح نجاحاً منقطع النظير. إذا صار العلويون يعتبرون أنفسهم جزءاً من التاريخ السياسي للمنطقة وجزءاً من حراكها العربي الفاعل. وإلا كيف يمكن فهم التحالف الإيراني – السوري في الثمانينات والتسعينات وفي الوقت ذاته علاقة عربية سورية في أفضل حالاتها؟ وكان مؤتمر الطائف في المملكة العربية السعودية إعلاناً نهائياً عن إمساك الراحل الأسد بالورقة الإيرانية لا إمساكها به. فكان مثلاً ، التنسيق السوري المصري السعودي يدير لعبة السياسة الإقليمية في أعلى كفاءة. والجميع يذكر دور المملكة العربية السعودية سواء في المسألة اللبنانية أو العراقية أو الإيرانية، وكله في تفاهم عالٍ مع الأسد الأب. ذلك أنه، أي الأسد الأب، وهو العروبي، يعتبر الإسلام العربي، في مختلف مصادره، هو مولد الكينونة وحامل الشخصية السياسية الأساسي. فكان يَتحدث عن دمشق، أنذاك، بقلب للعروبة. ولم يكن في الأمر مبالغة تذكر. كل خصوم الأسد الأب لا يستطيعون إلا الاعتراف بتعريبه للسياسة السورية، ومنها مناطقيتها وأقلياتها.
التبشير الشيعي
الآن، في عهد الأسد الابن، فارقٌ مروع. حصل شيءٌ لا يُصدق. إذ إن الدكتور بشار الأسد استلم السلطة عبر غطاء عربي سريع منحه شرعية مباشرة من خلال زيارات الرئيس المصري حسني مبارك وولي العهد السعودي – أنذاك – الملك الحالي عبدالله بن عبدالعزيز، وأيضاً من خلال قراءة أميركية إيجابية له كطبيب منفتح يفترض أن تنتقل معه سوريا إلى ما بعد الحرب الباردة. ومع أن بشار الأسد استلم السلطة مترافقة مع انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني، وما يفترضه الأمر من تحول نوعي نحو المؤسسات والعمل المدني، فوجئ المراقبون كيف أن العلماني المفترض - بصفة بشار الأسد طبيب تعلم في الغرب وابن لحافظ الأسد - فوجئ المراقبون بتحول العلماني دينياً غارقاً في تحالف طائفي خلع أبواب سوريا أمام الحلف الذي بات شريكاً بحصة الأسد، وبات الأسد، ومعه الجمهورية العربية السورية، بحصة عصفور، فتقدمت إيران في سوريا وتراجعت عاصمة الأمويين إلى الخلف، وشخص السني إلى نفسه التي جُردت من كبريائها الشامية التي منحها بنو أمية كل عوامل الرفعة والإحساس بالامتلاء. وشخص العلوي إلى نفسه ليرى أن الأسد الابن أهدى الجمهورية العربية إلى الجمهورية الفارسية، والجمهورية العلمانية إلى الجمهورية الشيعية. لم يعلم الأسد الابن أن للأمر حساسية مذهبية تفوق حساسيته الطائفية، فالعلويون الذين يكفرون شيعياً باعتبارهم "منحرفين ضالين ومبتدعي كفر التجسيد" لن يتقبلوا أن يأتي مكفرهم ليهددهم تهديداً لم يتلقه العلوي حتى في زمن الدولة العثمانية. الآن يأتي "المبشر" الشيعي إلى قراهم في اللاذقية وجبلة وطرطوس ويشتمهم ويكفرهم مدعوماً من الدولة ومدعوماً بغطاء حماية التشيع للمقاومة. في عدد من قرى "جبلة" العلوية بات الناس يشتكون علناً من الاختراق الإيراني لإسلامهم العربي الذي قدمه لهم حافظ الأسد بصفته عروبة ذات أساس ديني موحد.
ضيوف وشتائم
أكمل الأسد الابن رحلة التحالف مع إيران، إلا أنه فقد أي مقاومة تذكر بالحفاظ على وجه سوريا العربي. لقد بات السوريون ينفرون من مئات الآلاف من الإيرانيين الذين يأتون دمشق لزيارة السيدة زينب ثم يشتمون العاصمة علناً أمام أهلها (!) ينزل الإيراني الآن من الحافلة التي تقله من المطار إلى دمشق ويقول بالحرف الواحد: "لعن الله فلان وفلان وفلان يا أهل الشام" – لم نستطع العمل بمقولة ناقل الكفر ليس بكافر إذ يمنعنا التأدب حتى من ذكر المشتومين الذين هم وحدهم بناة هذه الدولة التي دخلها الحاج الإيراني وشتم أهلها أمام أعينهم.
كل التركة العربية التي خلفها الراحل الأسد الأب بددها الأسد الابن وبات الحال، يشبه حال العرب بعيد سقوط بني أمية وطرد آخر ملوكهم ومن ثم قتله. العربي الآن في دمشق مصدر شتيمة وبغضاء. لماذا؟ لأنه ليس "مقاومة" إيرانية. ابن دمشق الآن ينتظر اعترافاً من طهران بحبه لفلسطين وللإسلام؟ في زمن الأسد الأب كانت كلمة "العربي" مجال فخر واعتزاز إنما وفي عهد بشار الأسد صار العربي درجة أدنى. من يصدق ذلك؟ صار العربي مرادفاً للتخاذل وللتخلي عن فلسطين. هكذا بسياسة استلحاق واستتباع كسا الغبار وجه سوريا وبات لا يدخلها العربي إلا مضطراً. تلك عبقرية التحالف الذي يحولك إلى ورقة ويخلعك عن باب أمتك. لو قام الأسد الأب من قبره ورأى حال سوريا على يد ابنه الرئيس لأصابه الذهول وغرقٍ في تفجع لا نهاية له لأن ما خُرب أكبر بكثير من قدرة أي بنّاء على الترميم.
خيارات العلويين في ظل سياسة بشار
وضعت الطائفة العلوية الآن في عهد الأسد الابن أمام خيارات نقوصية عالية، فإما تتنازل عن التركة العروبية التي أسسها حافظ الأسد وتعود إلى حصنها المنغلق وإما تدخل في سباق مع الكينونة وترى التشيع حلاً واسعاً؟ في زمن الأسد الأب، وبسبب التداخل المنطقي بين العروبة والإسلام، حدث نوع من "التسنن" النسبي أو الكامل لدى العديد من الأسر العلوية وبات نظام الصلاة لديهم تماماً كالمعمول به في الإسلام الأكثري، السني. وباتت العائلات العلوية التقليدية تتسابق على إظهار إسلامها الظاهري واعتناقه بحرفيته ودخلت أسماء "خالد" و "أبو بكر" إلى مسميات أبنائهم باعتبار خالد نموذج عروبة وأبي بكر خليفة شرعياً. وباتت الأصوات تعلو من داخل الطائفة العلوية بأن الكثير من معتقداتهم القروسطية صارت عبئاً على "العلوي" الجديد الذي رأى في الإسلام الظاهري، إسلام الأكثرية، وعاءً أيديولوجياً عالي القيمة. حتى أن رجال الدين كانوا يشتكون في الثمانينات من طلاب الجامعة العلويين الذين "يشعرون بالخجل" من سب وشتم الخلفاء أو عبادة القمر والشمس. وكانت النكات والطرف تتخلل المجتمع العلوي عن كل طقوس التعبد والعقائد. وهذا أمرٌ معروف للجميع وبسبب قوة الدفع العروبي الذي أسس له حافظ الأسد مما سهل على كثر من المترددين بالاتجاه إلى إسلام منفتح علني يتفق عليه الكل من حولهم.
مشكلة العلوي الآن أكبر وأكثر تعقيداً. فقد أعادهم التغلغل الإيراني والتبشير الشيعي إلى الصفر، باستغلال جهل بشار في كل هذه القضايا. إذ إن العلوي الذي تجاوز مرحلة احتقار التاريخ إلى تمجيده، وشتم الصانع إلى احترامه، دخل الآن في تردد مدمر بسب عودة ثقافة شتم العرب وشتم الإسلام الأكثري إلى ثقافته. فماذا سيفعل الآن؟ هل سيعود إلى اعتبار عمر بن الخطاب وأبي بكر وعثمان "شياطين"؟ هل سيقرأ التاريخ الإسلامي بصفته مؤامرة على عائلة مقدسة تمت تصفيتها؟ سؤال قاسٍ يقلق المتابع لوضع الطائفة العلوية التي أوصلها ضعف شخصية بشار وجهله بالمدى اللامنظور للسياسة إلى هذا الوضع الواهن الذي سبق وتجاوزته مع نهاية الستينات.
على الرغم من الحرب الدامية التي وقعت بين نظام الأسد الأب والإخوان المسلمين في الثمانينات. وللتأكيد على سعة الإسلام الأكثري مع الطائفة العلوية يجب التذكير أنه في كل تاريخ الحرب بين الأسد الأب والإخوان المسلمين لم تنفجر سيارة مفخخة واحدة في أي منطقة علوية على الإطلاق؟ فهل يحتاج اللبيب إلى أكثر من إشارة ليفهم بأن مشكلة الإسلاميين مع النظام كانت سياسية وإقليمية ولم تكن طائفية وإلا ما سرّ هذا الامتناع (ولله الحمد طبعاً) عن ضرب أي تجمع علوي في الوقت الذي كانت تنفجر فيه السيارات في دمشق وحلب؟ العلويون أدركوا هذه المسألة منذ ولادتها وانتبهوا إلى أن مدنهم وقراهم كانت أسهل للاختراق من العاصمة ورغم ذلك لم يقترب منها إخواني واحد؟ وهذا سرّ اتجاه كثير من أبناء العائلات العلوية إلى "التسنن" بعد ما لاحظوا أنه على الرغم من قسوة رد فعل النظام على الإخوان عبر قصف مدينة "حماه" كان من الممكن أن يأتي انتقام إخواني – سني منهم ورغم ذلك لم تنفجر أي سيارة أو قذيفة في بيوتهم وأحيائهم. حتى أن أهل السنة في مدينة جبلة اللاذقانية ذات الأكثرية العلوية كانوا لا يكتفون فقط بتقديم التعازي إذا قتل ضابط علوي أو مواطن علوي عادي على يد الإخوان المسلمين؟ بل كان سنة "جبلة" يشرفون على العزاء مباشرة كما لو أنهم أهل الفقيد تماماً ولا يعرف الغريب إلا أنهم أهله وليسوا ضيوفاً للتعزية. هذه هي أخلاق مدرسة الأسد الأب والذي لم نكن نظن يوماً أن نخط مقالاً في امتداحه بهذا الحجم إلا أن حال سوريا على يد ابنه جعلت الكل على الأقل يقول: رحم الله أيامك يا حافظ الأسد لمن تركت سوريا؟!.
لهذا يعرف المهتمون المراقبون أن تحولاً بنيوياً طرأ على علاقة العلوي مع محيطه أنذاك وبات، مثلاً الشيخ السني هو الذي يعقد القران في الزيجات العلوية وليس الشيخ العلوي، وكذلك امتناع أغلب الفئات الشابة والمتعلمة حتى عن مجرد تعلم الديانة العلوية. وأيضاً ازدياد ظاهرة تزويج العلويين بناتهم لرجال من السنة. وطبعاً ليس القصد الدعوة إلى أن يغير الناس عقائدهم بل الإشارة إلى الظرف والمساحة الحرة التي تسمح لهم بالاختيار العقلي
"مقاومة" التعريب
الحالة الآن معكوسة وقد انقسم الشارع العلوي إلى فئتين أساسيتين في مرحلة الأسد الابن وهما: الأولى، وهي الشريحة التي تأثرت بالمد العروبي، ومن ثم الإسلامي، لأن العروبة تستبطن الإسلام بُنية، وتعاني الآن قلقا باديا فإما اتجاه نحو التطرف العلماني عبر الإلحاد وإما الغرق في التبشير الشيعي الذي بات يحاصر قراهم وفلاحيهم عبر جاذبية المال والنفوذ. أما الثانية، فهي الأخطر، فهي اكتشفت أن التبشير الشيعي أعادها إلى المربع الأول، ثقافة اللعن والخروج من التاريخ والانقلاب على الدولة، فانقسمت بدورها إلى خيارين اثنين، الخيار الأول عبر عودة إلى الأصول العلوية الأولى وما تشمله من ارتياب وفرقة وخروج من التاريخ، الخيار الثاني عبر التشيع. وهي الفئة التي نجح التبشير الشيعي باستمالتها من خلال جاذبية المقاومة ومعنى الحسين شهيداً حتى تداخل الأمر وبدت المقاومة كما لو أنها استعادت لشخصية الحسينية ومدلولها في اللاشعور السياسي ليصبح المقاوم – الحسيني – نضالاً بوجه الهوية، الدولة، والتي تشتم من اللحظة الأولى لدخول الإيراني على مطار دمشق علناً وأمام الناس وحادثة التعارك بالأيدي التي حصلت بين موظف جمارك وأحد السياح الدينيين الإيرانيين عام 2006 في مطار دمشق أشهر من أن تكذب إذ انبرى السائح الشيعي بشتم معاوية وبعض الخلفاء بصوت عالٍ مما حدا بموظف المطار أن يقول له "يا ابن الكلب جاي على بلدي وتشتم خلفائي" وهجم عليه وضربه وتدخل بعضٌ من السياح الإيرانيين الآخرين وحسم الأمر لصالح السائح ذاك وعوقب موظف المطار بنقله إلى فئة أقل مهنياً وعقوبات أخرى (!) هذا نموذج لعبقرية بشار الأسد بإعادة العلويين إلى العصر ما قبل الصناعي وتحويل الشوام (أهل دمشق) إلى غرباء في عاصمتهم. كل ذلك ما كان ليحصل أيام ذكاء سوريا الأب وحنكة المملكة العربية السعودية ومرونة مصر العرب. كان هذا المثلث العروبي متراساً مشرقياً قاوم الحرب الباردة وخرج بأقل الخسائر وأكبر الانتصارات: إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقف الدعم عن النظام العراقي السابق، إرغام أوروبا على فك عزلتها التي فرضتها وقت ذاك على النظام السوري الحافظي.
اعتقد بشار أن التركيز السياسي على اللغة العربية كما يرد في خطاباته، يستطيع أن يعيد وهج سوريا العربية. خطأ جديد. اللغة ليست قواعد إملاء وإعراب. اللغة ثقافة وطريقة تفكير وخلق ونظام حياة. ماذا سينفع السوريون إذا أدخلت العربية إلى مناهجهم بكثافة بينما هم خارج العروبة وباتوا إما ضدها وإما لا يعرفونها؟!
انقلاب الأسد الابن على "الطائف"
بينما أنهى الأسد الأب مع المملكة ومصر الحرب الأهلية اللبنانية عبر أشهر اتفاق عربي – عربي أسس له العرب وأرغم الغرب على قبوله، نجد الآن عمل الأسد الابن على تفكيك اتفاق الطائف من خلال العمل على إذكاء الحرب الأهلية اللبنانية الآن (للمصادفة!). وبعد احتواء الحرب العراقية الإيرانية يعمل بشار الآن على تصدير الانتحاريين إلى العراق (للمصادفة). وبعد أن استطاع التلاحم العربي العربي (سورياً وسعودياً ومصرياً) أن يفك العزلة السورية عن أوروبا والعالم نرى بشار الآن أغرق سوريا في مستنقع عزلة لا مثيل له (وهو الآخر بالمصادفة). كما لو أن بشار يمثل ثورة على والده، فأبوه أخرج المساجين في التسعينات، وبشار أعادهم إليه في الألفية الثالثة (الآن حتى طلاب الباكالوريا يدخلون السجن)، حافظ الأسد وفي عز البلشفية والاشتراكية افتتح بيده فندق الشيراتون عام 1974م ، بشار الآن يفتتح مدارس التبشير الشيعي مقدماً لها الشرعية بكل فجاجة وبلا حياء.
بانتظار الخلاص
إذا انقلبت سوريا في عهد بشار الأسد على الطائف وأذكت الحرب اللبنانية التي يعد لها الآن، وإذا خرجت سوريا من صف التضامن العربي، وإذا أسقط في يد العلويين فلم يعرفوا اتجاهاً إلا الالتفاف حول التبشير الشيعي بوجه "آل أمية" وإذا يشتم الشامي في داره فماذا يكون محصل هذه السياسة التي رهنت نفسها لمشروع الغير وباتت حتى عبئاً عليه لغياب أي مبادرة ذاتية منه. الحل بيد السوريين أنفسهم. ورثة العروبة ومنتجوها. أهلها وبيتها. هؤلاء الذين قال عنهم الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل: "ألحقوا الدنيا ببستان هشام". باتوا الآن ملحقين وليس ببستان، بل بثقافة مغلقة تريد أن تعيد التاريخ إلى لحظة قابيل وهو يقتل أخاه هابيل. هذا جزء بسيط من جردة سياسة الدكتور بشار الأسد الذي لم يتبق من سوريا إلا صوره هو بدون أي ابتسامة أو حتى أدنى ثقة بالنفس.
المصدر موقع ايلاف