Moonlights
23/02/2008, 11:21
مدارات - الحب في زمن الحروب لا الواحد، بل المثنّى
أدونيس الحياة - 21/02/08//
(تحية لجميع العشاق)
-1-
14 شباط 2008، الخميس الماضي: عيد الحبّ. احتفل به كثيرون في العالم. نحن، في العالم العربي، لا نحتفل به. نفضّل الاحتفال بأعياد اخرى، من كل نوع، ما عدا الحب. كأن الحب عندنا غير موجود إلا في لحظة معينة، لحظة السرير. وهي، بالأحرى، لحظةُ جِمَاعٍ، وليست بالضرورة لحظة حب. في كل حال، الحب عندنا في المجتمعات العربية – الإسلامية مسألة لبحث طويل ومعقّد.
-2-
بالحبّ تنفتح الذات على «آخرها»، كما يعبّر الكاتب الفرنسي بيار كلاستر – آخرها الذي تحبه، والذي لا تكتمل، حقاً، إلا به. فبه تلتقي بشطرها المفقود، كما كان يقول أفلاطون، وتكتمل هوّيتها.
هكذا سيكون السؤال الأول الذي يطرحه عليّ، شخصياً، عيد الحب، خلافاً لما يمكن ان يتوقعه بعضهم، مرتبطاً بمعنى الهوّية. فماذا نعني عندما نقول «هوّية»؟
يعني هذا السؤال، بالنسبة إليّ، أمرين متلازمين:
الأول: الإنسان هوَ هوَ.
الثاني: الإنسان هو لا هو. أو: هو غيرهُ.
تتضمن الهوّية إذاً، الائتلاف والتشابه. لكنها، في الوقت نفسه، تتضمن الفرقَ والاختلاف. وهذا يعني ان الذات لا تتحدد، حقاً، أو لا يكتمل تحديدها إلا بالعلاقة مع الآخر. ذلك ان العلاقة هي مكانُ الصيرورة. وليس للكينونة، للذّات، هوّية إلا بوصفها صيرورة، أو في الصيرورة. الهوّية هي في هذا الترحل الدائم بين الكينونة والصيرورة. فالجوهر الثابت الذي لا يتغير، لا هوّية له.
الهوّية مجازٌ: عبورٌ نحوَ.
باللّغة – مجازاً، تنفتح الهوّية على اللاّ مقول في الواقع وفي اللغة. وبالحبّ – مجازاً، تنفتح الذاتُ على «آخرها» الذي لا تكتمل إلا به.
هوّية الشاعر (والإنسان، بعامة) هي في حركية اختلافه داخل ذاته المؤتلفة أو المتشابهة مع نفسها. فالشعر، كمثل الحبّ، ذاتية هي نفسها آخريّةٌ، أو آخريّةٌ هي نفسها ذاتية.
وفي هذا توكيد كامل على ان الهوّية الكاملة لا تتمثّل في الواحد، بل في المثنّى، أو بتعبير مُفارق: الواحد – المُثنّى. وهذا مما لا يتجسّد في ذوراته العليا إلاّ في الحبّ.
-3-
السؤال الثاني يدور حول تحقّق الحبّ في الجنس أو في الجِماع، وأصوغه بسذاجة كما يلي: هل الجِماع فعلٌ طبيعي؟ إنه حقاً سؤال ساذج الى درجة قد تدفع بعضهم الى الصّراخ: لا يجوز طرحه. غير ان طبيعة النظرة السائدة الى الجسد في المجتمع العربي الإسلامي تقتضي وضع هذه البداهة نفسها موضع السؤال. فإذا كان هذا الفعل طبيعياً، فهو للجسم، إذاً، كمثل الهواء والماء. ولماذا، إذاً، لا تكون النظرة الى الجسد كريمة وعالية؟ ولماذا يُنظر إليه بوصفه موضع الدنس والخطيئة؟
أليس في ذلك دليل آخر على الخلل المدمّر في ثقافتنا السائدة، وأخلاقنا السائدة؟
كان الحبّ والشعر في الرؤية العربية قبل الإسلام، يرتبطان بالجسد كيانياً. ويعبّر امرؤ القيس في أعمق لغة شعرية عن كيانيّة الفعل الجنسي، مُقْترناً بالأمومة والطفولة والرّضاع. في لغةٌ – جسدٌ، وحدةٌ شاملةٌ في ما بين العاشقين، ووحدةٌ شاملة، عِبْر الحبّ، بينهما وبين الكون.
-4-
قد يكون السؤال الثالث الذي يطرحه عليّ عيد الحب الأكثر مدعاةً للاستغراب. ذلك انه يجيء من فلك تجريدي ديني محض، حيث يتمثّل حضور الهوّية في غيابها، أو حيث لا يكون إثباتها إلاّ في محوِها، ويكون الموتُ شرطاً أول، ومدخلاً لهذا التجريد الغيبيّ الذي «يُثْبتُ» الهوية فيما «يمحوها».
وها هي الأمثلة الحية تتكرر يومياً، تقريباً.
أَصِفُ، لا على التّعْيين، واحداً منها.
إنه، كمثل كثيرين غيره، مجاهدٌ: رمزياً، شهيدٌ مسبّق. لذلك يعرف انه لا يكون تجسيداً لهذا الرمز إلا بموته. ويعرف ان موته ليس كمثل ذلك الموت الذي يتم في أحضان الطبيعة، بوصفه قانون الحياة، وجزءاً منها، وإنما هو الموتُ المقصودُ، المُشتهى، الذي يُنهي فيه ما يتّصل بالطبيعة، ويخلّصه من عوارضها، لكي يقذفه إلى الأبد في ما وراءها. في حضرة الخالق.
يقْضي على «مخلوقيّته»، لكي «يغيب» في ملكوت الخالق. ففي هذا الملكوت تبدأ الحياة الحقيقية «الغائبة» على الأرض. كأنه في شَهْـــــــــوتهِ العالية لقتل الآخر العدوّ (ولقتل الآخر معه، دون ان يكـــــــون عدواً) مسكـــون بشهوة أخرى أكثر علوّاً: قتل نفسه. وفي هذا ما يفسّر لامبالاته (أو استبساله) في تنفيذ هذا القتل المزدوج: «جريمة» ليست إلا «نجاةً» و «خلاصاً»، يرتــــفــــع بهما الى عرش الخالق. ومع ان هذا العرش ليس محصوراً في السماء، وإنما هو السّماء والأرض معــــاً، فإنه يفضــــّل الصورة السّماويّة لهذا العـــرش. كأنّه في ذلك «يمحو» الأرض ذاتها. كأنه يُريد ألاّ يبقى من صُوَرِ الوجود الكروية إلاّ كرة السّماء.
لا حُبّ، لا شعر، لا حياة على هذه الأرض – أجمل الكواكب. المسألة، بالنسبة إليه، هي ان يستأصل نفسه من «المادة»، ويطير بها الى الغيب المجرّد.
المسألة هي ان يثبتّ الواحدَ، وينفيَ المُثنّى.
-5-
السّؤال الأخير الذي يثـــــــيره «عيد الحــــبّ» في هذه العُجالة، هو، بالنسبة إليّ: ما المسألة الأساسية، اليوم، في الثقافــــــــة العربية – وتحديداً في الشعر؟
وجوابي الشخصـــــي هو أنها، خــــــلافاً لما يقال، ليست البــــحـــث في دور الثقافة، أو دور الشعر، بقدر ما هي البحث في دور المجتــــمع نفسه، أفـــراداً وجماعات، في خلق ثقافـــــة جديدة، وفي العـــــمل لتــــــحويل الحـــــياة الى شعْرٍ وحبّ. إنه دور يتمـــــثّل في جعل الوجــــود الإنساني يُعاش كأنّه نشـيد لغبـــــطة الإنسان وللحياة في الغبطة.
أدونيس الحياة - 21/02/08//
(تحية لجميع العشاق)
-1-
14 شباط 2008، الخميس الماضي: عيد الحبّ. احتفل به كثيرون في العالم. نحن، في العالم العربي، لا نحتفل به. نفضّل الاحتفال بأعياد اخرى، من كل نوع، ما عدا الحب. كأن الحب عندنا غير موجود إلا في لحظة معينة، لحظة السرير. وهي، بالأحرى، لحظةُ جِمَاعٍ، وليست بالضرورة لحظة حب. في كل حال، الحب عندنا في المجتمعات العربية – الإسلامية مسألة لبحث طويل ومعقّد.
-2-
بالحبّ تنفتح الذات على «آخرها»، كما يعبّر الكاتب الفرنسي بيار كلاستر – آخرها الذي تحبه، والذي لا تكتمل، حقاً، إلا به. فبه تلتقي بشطرها المفقود، كما كان يقول أفلاطون، وتكتمل هوّيتها.
هكذا سيكون السؤال الأول الذي يطرحه عليّ، شخصياً، عيد الحب، خلافاً لما يمكن ان يتوقعه بعضهم، مرتبطاً بمعنى الهوّية. فماذا نعني عندما نقول «هوّية»؟
يعني هذا السؤال، بالنسبة إليّ، أمرين متلازمين:
الأول: الإنسان هوَ هوَ.
الثاني: الإنسان هو لا هو. أو: هو غيرهُ.
تتضمن الهوّية إذاً، الائتلاف والتشابه. لكنها، في الوقت نفسه، تتضمن الفرقَ والاختلاف. وهذا يعني ان الذات لا تتحدد، حقاً، أو لا يكتمل تحديدها إلا بالعلاقة مع الآخر. ذلك ان العلاقة هي مكانُ الصيرورة. وليس للكينونة، للذّات، هوّية إلا بوصفها صيرورة، أو في الصيرورة. الهوّية هي في هذا الترحل الدائم بين الكينونة والصيرورة. فالجوهر الثابت الذي لا يتغير، لا هوّية له.
الهوّية مجازٌ: عبورٌ نحوَ.
باللّغة – مجازاً، تنفتح الهوّية على اللاّ مقول في الواقع وفي اللغة. وبالحبّ – مجازاً، تنفتح الذاتُ على «آخرها» الذي لا تكتمل إلا به.
هوّية الشاعر (والإنسان، بعامة) هي في حركية اختلافه داخل ذاته المؤتلفة أو المتشابهة مع نفسها. فالشعر، كمثل الحبّ، ذاتية هي نفسها آخريّةٌ، أو آخريّةٌ هي نفسها ذاتية.
وفي هذا توكيد كامل على ان الهوّية الكاملة لا تتمثّل في الواحد، بل في المثنّى، أو بتعبير مُفارق: الواحد – المُثنّى. وهذا مما لا يتجسّد في ذوراته العليا إلاّ في الحبّ.
-3-
السؤال الثاني يدور حول تحقّق الحبّ في الجنس أو في الجِماع، وأصوغه بسذاجة كما يلي: هل الجِماع فعلٌ طبيعي؟ إنه حقاً سؤال ساذج الى درجة قد تدفع بعضهم الى الصّراخ: لا يجوز طرحه. غير ان طبيعة النظرة السائدة الى الجسد في المجتمع العربي الإسلامي تقتضي وضع هذه البداهة نفسها موضع السؤال. فإذا كان هذا الفعل طبيعياً، فهو للجسم، إذاً، كمثل الهواء والماء. ولماذا، إذاً، لا تكون النظرة الى الجسد كريمة وعالية؟ ولماذا يُنظر إليه بوصفه موضع الدنس والخطيئة؟
أليس في ذلك دليل آخر على الخلل المدمّر في ثقافتنا السائدة، وأخلاقنا السائدة؟
كان الحبّ والشعر في الرؤية العربية قبل الإسلام، يرتبطان بالجسد كيانياً. ويعبّر امرؤ القيس في أعمق لغة شعرية عن كيانيّة الفعل الجنسي، مُقْترناً بالأمومة والطفولة والرّضاع. في لغةٌ – جسدٌ، وحدةٌ شاملةٌ في ما بين العاشقين، ووحدةٌ شاملة، عِبْر الحبّ، بينهما وبين الكون.
-4-
قد يكون السؤال الثالث الذي يطرحه عليّ عيد الحب الأكثر مدعاةً للاستغراب. ذلك انه يجيء من فلك تجريدي ديني محض، حيث يتمثّل حضور الهوّية في غيابها، أو حيث لا يكون إثباتها إلاّ في محوِها، ويكون الموتُ شرطاً أول، ومدخلاً لهذا التجريد الغيبيّ الذي «يُثْبتُ» الهوية فيما «يمحوها».
وها هي الأمثلة الحية تتكرر يومياً، تقريباً.
أَصِفُ، لا على التّعْيين، واحداً منها.
إنه، كمثل كثيرين غيره، مجاهدٌ: رمزياً، شهيدٌ مسبّق. لذلك يعرف انه لا يكون تجسيداً لهذا الرمز إلا بموته. ويعرف ان موته ليس كمثل ذلك الموت الذي يتم في أحضان الطبيعة، بوصفه قانون الحياة، وجزءاً منها، وإنما هو الموتُ المقصودُ، المُشتهى، الذي يُنهي فيه ما يتّصل بالطبيعة، ويخلّصه من عوارضها، لكي يقذفه إلى الأبد في ما وراءها. في حضرة الخالق.
يقْضي على «مخلوقيّته»، لكي «يغيب» في ملكوت الخالق. ففي هذا الملكوت تبدأ الحياة الحقيقية «الغائبة» على الأرض. كأنه في شَهْـــــــــوتهِ العالية لقتل الآخر العدوّ (ولقتل الآخر معه، دون ان يكـــــــون عدواً) مسكـــون بشهوة أخرى أكثر علوّاً: قتل نفسه. وفي هذا ما يفسّر لامبالاته (أو استبساله) في تنفيذ هذا القتل المزدوج: «جريمة» ليست إلا «نجاةً» و «خلاصاً»، يرتــــفــــع بهما الى عرش الخالق. ومع ان هذا العرش ليس محصوراً في السماء، وإنما هو السّماء والأرض معــــاً، فإنه يفضــــّل الصورة السّماويّة لهذا العـــرش. كأنّه في ذلك «يمحو» الأرض ذاتها. كأنه يُريد ألاّ يبقى من صُوَرِ الوجود الكروية إلاّ كرة السّماء.
لا حُبّ، لا شعر، لا حياة على هذه الأرض – أجمل الكواكب. المسألة، بالنسبة إليه، هي ان يستأصل نفسه من «المادة»، ويطير بها الى الغيب المجرّد.
المسألة هي ان يثبتّ الواحدَ، وينفيَ المُثنّى.
-5-
السّؤال الأخير الذي يثـــــــيره «عيد الحــــبّ» في هذه العُجالة، هو، بالنسبة إليّ: ما المسألة الأساسية، اليوم، في الثقافــــــــة العربية – وتحديداً في الشعر؟
وجوابي الشخصـــــي هو أنها، خــــــلافاً لما يقال، ليست البــــحـــث في دور الثقافة، أو دور الشعر، بقدر ما هي البحث في دور المجتــــمع نفسه، أفـــراداً وجماعات، في خلق ثقافـــــة جديدة، وفي العـــــمل لتــــــحويل الحـــــياة الى شعْرٍ وحبّ. إنه دور يتمـــــثّل في جعل الوجــــود الإنساني يُعاش كأنّه نشـيد لغبـــــطة الإنسان وللحياة في الغبطة.