ملاك السعودية
13/03/2008, 01:45
اذهبوا إلى الغرب.. وتجاوزوه
(هكذا تكلم الإمبراطور ميجي!)
الكلام الذي يقال للأفارقة يمكن أن يقال مثله لغيرهم من الشعوب المتخلفة، وفي مقدمتها الشعوب العربية. ومن أين لنا بديفيد كينغ بريطاني يأتي إلينا ليبلغنا حكمته، وليجعلنا نمسك بالطريق الذي سيقودنا إلى الفلاح، لنخرج من قوقعة الضعف والفقر والتخلف، وندلف إلى رحابات قرننا الجديد؟! من أين لنا بإمبراطور ياباني، اسمه ميجي Meuji (1868-1912م)، يدفعنا إلى خارج أسوارنا الحصينة، ويجعلنا نضبط مشيتنا على إيقاع العصر الذي نحن فيه؟! نريد ديفيد كينغ يقول لنا: ليس للعرب إحراز أي تقدم بناء على ما لديهم (فقط)، ونريد امبراطور ميجي آخر يصرخ في وجوهنا: "اذهبوا إلى الغرب.. وتجاوزوه"... بل يمكن له أن يقول لنا أيضاً: "اذهبوا إلى الشرق.. وقلدوه".
إن تطوير التعليم في اليابان، ومراجعة خططه وبرامجه، وإعادة بناء أهدافه، هي كلها تطبيق عملي لفلسفة اليابانيين في علاقتهم مع التقدم، ومع فكرة المضي إلى الأمام. فقد أخذوا على أنفسهم، في تصورهم للمستقبل، بتوطين التجارب الناجعة واستنباتها والإضافة إليها، وقد ظلوا دائمي التطلع إلى أن يكونوا في مقدمة شعوب الأرض بالتفاعل مع ما يجري، بالاقتباس أو المحاكاة أو التلاقح. واليابان لا تتردد في الاستعارة، أو إعادة إنتاج ما تنجزه الشعوب المتقدمة، ثم تضيف إليه ما تقتضيه العبقرية اليابانية. لم تقبل اليابان أبداً بدور المتفرج، أو دور المستهلك، بل اختارت أن تأخذ مكان "الشريك" الذي يأخذ ويعطي، ويهضم ويفرز، ويتعلم ويضيف. ومن هنا يأتي القول بأن اليابان ظلت شديدة الوفاء لشعار الإمبراطور ميجي عندما باح لليابانيين بما يعتلج في صدره، والعالم يتوثب من حوله، ومن أمامه، ومن ورائه.. لقد قال بملء صوته، لمجتمع محافظ وشديد الاعتزاز بذاته وبتراثه: "اذهبوا إلى الغرب وتجاوزوه". ولضمان حسن تنفيذ هذا الشعار، وكما يروي تاريخ النهضة اليابانية، فقد أرسلت الحكومات اليابانية المتعاقبة عشرات البعثات العلمية إلى مختلف الدول الأوروبية والأمريكية المتطورة، واستقدمت آلاف الخبراء من تلك الدول، ودفعت لهم رواتب عالية جداً، تفوق أحياناً رواتب الوزراء اليابانيين، وبعد أن استفادت منهم بشكل مكثف عادوا إلى بلدانهم، تاركين للخبراء اليابانيين الجدد مهمة إكمال المهمة، بما يتلاءم مع طبيعة مجتمعهم.(1)
لقد أكدت التجربة اليابانية في الابتعاث، أو استقدام الخبرات الأجنبية، أهمية التواصل بين الثقافات، والاحتكاك بين البشر، في مشروع بناء الحضارات، فالحضارات لا تنشأ في العزلة ولا تنمو في الظلام، كما أن المعرفة هدف أساس في مشروع التنمية، وهي صلب هذا المشروع وماؤه وهواؤه، ولا ينبغي التردد في البحث عنها وملاحقتها أينما وجدت، ومهما كلفت من الأثمان. ويذكر أن اليابان ما بين عامي 1872م و1892م، أفادت من خدمات حوالي 19000 شخص، من الأساتذة والمهندسين والحرفيين الأجانب، وذلك بغرض إحداث التحول الجذري المطلوب في مؤسساتها التعليمية والحكومية والخاصة. وقد استطاعت، من خلال الاستفادة من التقدم التقني والتكنولوجيا الحديثة في أوروبا الغربية، أن تبني اقتصاداً وطنياً متيناً، نهض باليابان من مراحل التخلف إلى مصاف الدول المتطورة، ودول المنافسة الاقتصادية.(2)
لم يكن خيار التقوقع والانغلاق مطروحاً على ملهم النهضة اليابانية الحديثة الإمبراطور ميجي. وهو لم يكن، في الوقت ذاته، مستعداً للتفريط في تراث اليابانيين. لم يضع في ميزان تجربته ثنائية الانفتاح المطلق في مقابل الانغلاق المتمترس وراء الخوف، وضعف الثقة بالنفس وبالخاص وبالتراث، بل مضى يعلم أجيال اليابانيين طرق البحث عن"الحكمة" ووسائل مقومات المستقبل الأقوى أينما وجدت. فنهضت اليابان، وأعادت إنتاج حضارة الغرب، وتفوقت على نفسها، وعلى أقرانها، بل لعلها في كثير من منجزاتها تفوقت على معلميها وملهميها، وفي مقدمتهم الغرب وأمريكا ذاتها
وما فتئ النموذج الياباني يمثل قدوة لغيره من الشعوب الطامحة إلى التقدم، وإلى البحث عن الحكمة، فهي الأخرى تعتمد إرسال البعثات من الشباب للتزود بالعلم الجديد، والخبرات الجديدة، إذ يمثل الطلاب الآسيويون في الولايات المتحدة وحدها اليوم نحو 59% من إجمالي الطلاب الأجانب. وتعد الهند اليوم أكبر مصدر للطلاب إلى الولايات المتحدة، حيث بلغ عدد طلابها في الموسم الدراسي 2005م/2006م نحو 76,503 من الطلاب، ثم جاءت بعدها الصين بنحو 62,582 طالباً. ووجود الطلاب الهنود والصينيين واضح في الجامعات الرئيسية في الولايات المتحدة، مثل هارفارد، وكلية ماساشوستس للتقنية، وجامعة روتجرز، وتكساس أوستين، وجامعة هيوستن، وجامعة رايس. ويرى الطلاب الأمريكيون، أحياناً، بأنهم يبدون وكأنهم هم الأجانب في تلك الجامعات وسط الطلاب الهنود والصينيين.(3) وهذا مما يساعد في فهم الانطلاقة الاقتصادية الكبرى في القارة الهندية والصين، فلقد كان الابتعاث هو أحد أسبابها.
ومن الدول التي تلي الهند والصين في الابتعاث إلى الولايات المتحدة كوريا الجنوبية، حيث يصل عدد طلابها المبتعثين إلى هناك 58,847 طالباً وهذا الرقم المرتفع في أعداد الطلاب المبتعثين الكوريين ليس مرده طبيعة العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة، بل يعود ذلك إلى تطلعات الكوريين إلى نقل الخبرة الأمريكية العالية في مجال التكنولوجيا. وحتى اليابان نفسها، وهي على ما هي عليه، يصل عدد طلابها في الولايات المتحدة اليوم إلى حوالي 45,960 طالباً، فهي لم تكتف بما لديها، بل تريد المزيد. وإذا أردنا أن نفهم بعض ما يجري في تايوان من تقدم تكنولوجي فلابد أن نلاحظ أن عدد الطلاب التايوانيين في أمريكا يصل اليوم إلى 28,7017 طالباً، والمكسيك 12,801 ، وتركيا 11,602 ، أما بالنسبة إلى كندا، وهي الدولة الوحيدة غير الآسيوية في قائمة الدول الخمس الأكبر من حيث الابتعاث إلى أمريكا، فقد وصل عدد طلابها إلى 28,202.(4)
ويقدر عدد الطلاب القادمين من الشرق الأوسط بــــ 31,248 طالباً فقط، وهو عدد قليل جداً، مع انخفاض عدد الطلاب السعوديين بعد أحداث 11سبتمبر، فقد انخفضت نسبتهم بعد تلك الأحداث إلى 14%، ليصل عددهم إلى 3,035 طالباً فقط، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإمارات العربية التي انخفض عدد طلابها بنسبة 7% ليصل إلى 1,720، والأردن بنسبة 5% ليصل إلى 1,754.(6)
لكن السعودية أقرت، في العامين الماضيين، برنامجاً طموحاً لتبادل تعليمي مع الولايات المتحدة الأمريكية (أقر البرنامج كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش والملك عبدالله بن عبدالعزيز)،
ومن خلال هذا البرنامج، تضاعف عدد المبتعثين السعوديين خمس مرات بنهاية العام الدراسي 2007م. وتتحمل الحكومة السعودية كل نفقات المبتعثين،
وقد سجلت الإدارة الأمريكية حوالي 10 آلاف طالب للفترة الدراسية التي بدأت في خريف 2007م وقد ارتفع عدد الطلاب السعوديين بحلول شهر يناير 2008م إلى 15 ألف طالب،
ما يعني أن السعودية ستتفوق على المكسيك وتركيا في عدد الطلاب الذين تم إرسالهم للدراسة في الولايات المتحدة، وكلما زاد التوسع في تمويل برنامج الابتعاث أو المنح الدراسية، زاد احتمال تنامي عدد هؤلاء الطلاب.(7)
وفي بعض الإحصاءات أن عدد السعوديين المبتعثين إلى دول العالم المختلفة يتجاوز اليوم العشرين ألفاً. ومما يؤخذ على البعثات التعليمية السعودية، تاريخياً، عدم العناية بنوعية التخصصات التي يبتعث من أجلها الطلاب، إذ تفتقر في الغالب إلى التخطيط السليم، الذي يستجيب لمتطلبات التنمية الحديثة في البلاد، وغالباً ما يغترب الطلاب السعوديون من أجل الانخراط في تخصصات قائمة في جامعات بلادهم، بل أكثر من ذلك؛ فإن من المعروف أن أغلبهم يلتحقون بتخصصات نظرية، أو في العلوم الإنسانية، وهو ما لا يشكل ضرورة ملحة لمتطلبات التنمية في بلادهم، وبهذا؛ فإن نسبة المتخصصين في الفيزياء والعلوم والرياضيات مثلاً ليسوا بالقدر الكافي المطلوب الذي تحتاجه البلاد. ويمكن أن تؤخذ البلدان الآسيوية الأخرى قدوة في هذا المجال، ولاسيما الهند، التي يكاد يقتصر الابتعاث فيها على العلوم والرياضيات والهندسة
لابد أن نعترف بشجاعة أن "حكمة" هذا العصر ليست موجودة عندنا، ونحن لا يمكن أن نصل إليها، أو أن نستحوذها، إلا بالتعلم على أيدي الأمم التي تمتلكها، والتي تحقق في مجالها، كل يوم، معجزات جديدة لم يعد من السهل أو اليسير اللحاق بها. إن تقوقعنا، في السابق، هو الذي خلق هذه الفجوة الهائلة اليوم بيننا وبين غيرنا، ولا ريب في أن هذه الفجوة ستزداد تفاقماً إذا ما بقينا على ما نحن عليه من تقوقع، أو حتى إذا اكتفينا بزحف بطيء متثاقل، العالم من حولنا لم يعد يقنع بالمشي الحثيث نحو أهدافه وإنجازاته، بل أنه يركض مثل الريح باتجاه تلك الأهداف والإنجازات. والابتعاث إلى الدول المتقدمة لا ينبغي أن يكون غاية في ذاته، بل في أهدافه وفي المرتجى والمتوقع منه، فهناك اليوم علوم ومعارف صارت هي المفاتيح المفضية إلى المستقبل، ونحن لا نريد مزيداً من حاملي "الشهادات العليا"، نريد بالأحرى مزيداً ممن يكتسبون "الخبرات العالية" في تكنولوجيات العصر، نحن متخمون بأصحاب "الشهادات"، في الوقت الذي نعاني فيه من الفقر والعوز في أصحاب "الخبرات" والعلماء في الفيزياء والرياضيات وسواها من العلوم التي أخرجت لنا الهند بوجهها المشرق الجديد، وكذلك الصين وماليزيا، ولا ننسى سنغافورة التي تحتاج وحدها إلى فصول من الدرس والتأمل، فتجربة هذه الدولة الصغيرة التي انتقلت من بيوت القش والصفيح إلى نظام اقتصادي وتكنولوجي ملفت، هي تجربة جديرة بالمتابعة وهي أهل للإكبار الشديد. إن الابتعاث لغير تلك الغايات هو إهدار للمال والوقت، وهو افتئات على الحاضر والمستقبل
د.فهد العرابي الحارثي ( باحث سعودي )
(هكذا تكلم الإمبراطور ميجي!)
الكلام الذي يقال للأفارقة يمكن أن يقال مثله لغيرهم من الشعوب المتخلفة، وفي مقدمتها الشعوب العربية. ومن أين لنا بديفيد كينغ بريطاني يأتي إلينا ليبلغنا حكمته، وليجعلنا نمسك بالطريق الذي سيقودنا إلى الفلاح، لنخرج من قوقعة الضعف والفقر والتخلف، وندلف إلى رحابات قرننا الجديد؟! من أين لنا بإمبراطور ياباني، اسمه ميجي Meuji (1868-1912م)، يدفعنا إلى خارج أسوارنا الحصينة، ويجعلنا نضبط مشيتنا على إيقاع العصر الذي نحن فيه؟! نريد ديفيد كينغ يقول لنا: ليس للعرب إحراز أي تقدم بناء على ما لديهم (فقط)، ونريد امبراطور ميجي آخر يصرخ في وجوهنا: "اذهبوا إلى الغرب.. وتجاوزوه"... بل يمكن له أن يقول لنا أيضاً: "اذهبوا إلى الشرق.. وقلدوه".
إن تطوير التعليم في اليابان، ومراجعة خططه وبرامجه، وإعادة بناء أهدافه، هي كلها تطبيق عملي لفلسفة اليابانيين في علاقتهم مع التقدم، ومع فكرة المضي إلى الأمام. فقد أخذوا على أنفسهم، في تصورهم للمستقبل، بتوطين التجارب الناجعة واستنباتها والإضافة إليها، وقد ظلوا دائمي التطلع إلى أن يكونوا في مقدمة شعوب الأرض بالتفاعل مع ما يجري، بالاقتباس أو المحاكاة أو التلاقح. واليابان لا تتردد في الاستعارة، أو إعادة إنتاج ما تنجزه الشعوب المتقدمة، ثم تضيف إليه ما تقتضيه العبقرية اليابانية. لم تقبل اليابان أبداً بدور المتفرج، أو دور المستهلك، بل اختارت أن تأخذ مكان "الشريك" الذي يأخذ ويعطي، ويهضم ويفرز، ويتعلم ويضيف. ومن هنا يأتي القول بأن اليابان ظلت شديدة الوفاء لشعار الإمبراطور ميجي عندما باح لليابانيين بما يعتلج في صدره، والعالم يتوثب من حوله، ومن أمامه، ومن ورائه.. لقد قال بملء صوته، لمجتمع محافظ وشديد الاعتزاز بذاته وبتراثه: "اذهبوا إلى الغرب وتجاوزوه". ولضمان حسن تنفيذ هذا الشعار، وكما يروي تاريخ النهضة اليابانية، فقد أرسلت الحكومات اليابانية المتعاقبة عشرات البعثات العلمية إلى مختلف الدول الأوروبية والأمريكية المتطورة، واستقدمت آلاف الخبراء من تلك الدول، ودفعت لهم رواتب عالية جداً، تفوق أحياناً رواتب الوزراء اليابانيين، وبعد أن استفادت منهم بشكل مكثف عادوا إلى بلدانهم، تاركين للخبراء اليابانيين الجدد مهمة إكمال المهمة، بما يتلاءم مع طبيعة مجتمعهم.(1)
لقد أكدت التجربة اليابانية في الابتعاث، أو استقدام الخبرات الأجنبية، أهمية التواصل بين الثقافات، والاحتكاك بين البشر، في مشروع بناء الحضارات، فالحضارات لا تنشأ في العزلة ولا تنمو في الظلام، كما أن المعرفة هدف أساس في مشروع التنمية، وهي صلب هذا المشروع وماؤه وهواؤه، ولا ينبغي التردد في البحث عنها وملاحقتها أينما وجدت، ومهما كلفت من الأثمان. ويذكر أن اليابان ما بين عامي 1872م و1892م، أفادت من خدمات حوالي 19000 شخص، من الأساتذة والمهندسين والحرفيين الأجانب، وذلك بغرض إحداث التحول الجذري المطلوب في مؤسساتها التعليمية والحكومية والخاصة. وقد استطاعت، من خلال الاستفادة من التقدم التقني والتكنولوجيا الحديثة في أوروبا الغربية، أن تبني اقتصاداً وطنياً متيناً، نهض باليابان من مراحل التخلف إلى مصاف الدول المتطورة، ودول المنافسة الاقتصادية.(2)
لم يكن خيار التقوقع والانغلاق مطروحاً على ملهم النهضة اليابانية الحديثة الإمبراطور ميجي. وهو لم يكن، في الوقت ذاته، مستعداً للتفريط في تراث اليابانيين. لم يضع في ميزان تجربته ثنائية الانفتاح المطلق في مقابل الانغلاق المتمترس وراء الخوف، وضعف الثقة بالنفس وبالخاص وبالتراث، بل مضى يعلم أجيال اليابانيين طرق البحث عن"الحكمة" ووسائل مقومات المستقبل الأقوى أينما وجدت. فنهضت اليابان، وأعادت إنتاج حضارة الغرب، وتفوقت على نفسها، وعلى أقرانها، بل لعلها في كثير من منجزاتها تفوقت على معلميها وملهميها، وفي مقدمتهم الغرب وأمريكا ذاتها
وما فتئ النموذج الياباني يمثل قدوة لغيره من الشعوب الطامحة إلى التقدم، وإلى البحث عن الحكمة، فهي الأخرى تعتمد إرسال البعثات من الشباب للتزود بالعلم الجديد، والخبرات الجديدة، إذ يمثل الطلاب الآسيويون في الولايات المتحدة وحدها اليوم نحو 59% من إجمالي الطلاب الأجانب. وتعد الهند اليوم أكبر مصدر للطلاب إلى الولايات المتحدة، حيث بلغ عدد طلابها في الموسم الدراسي 2005م/2006م نحو 76,503 من الطلاب، ثم جاءت بعدها الصين بنحو 62,582 طالباً. ووجود الطلاب الهنود والصينيين واضح في الجامعات الرئيسية في الولايات المتحدة، مثل هارفارد، وكلية ماساشوستس للتقنية، وجامعة روتجرز، وتكساس أوستين، وجامعة هيوستن، وجامعة رايس. ويرى الطلاب الأمريكيون، أحياناً، بأنهم يبدون وكأنهم هم الأجانب في تلك الجامعات وسط الطلاب الهنود والصينيين.(3) وهذا مما يساعد في فهم الانطلاقة الاقتصادية الكبرى في القارة الهندية والصين، فلقد كان الابتعاث هو أحد أسبابها.
ومن الدول التي تلي الهند والصين في الابتعاث إلى الولايات المتحدة كوريا الجنوبية، حيث يصل عدد طلابها المبتعثين إلى هناك 58,847 طالباً وهذا الرقم المرتفع في أعداد الطلاب المبتعثين الكوريين ليس مرده طبيعة العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة، بل يعود ذلك إلى تطلعات الكوريين إلى نقل الخبرة الأمريكية العالية في مجال التكنولوجيا. وحتى اليابان نفسها، وهي على ما هي عليه، يصل عدد طلابها في الولايات المتحدة اليوم إلى حوالي 45,960 طالباً، فهي لم تكتف بما لديها، بل تريد المزيد. وإذا أردنا أن نفهم بعض ما يجري في تايوان من تقدم تكنولوجي فلابد أن نلاحظ أن عدد الطلاب التايوانيين في أمريكا يصل اليوم إلى 28,7017 طالباً، والمكسيك 12,801 ، وتركيا 11,602 ، أما بالنسبة إلى كندا، وهي الدولة الوحيدة غير الآسيوية في قائمة الدول الخمس الأكبر من حيث الابتعاث إلى أمريكا، فقد وصل عدد طلابها إلى 28,202.(4)
ويقدر عدد الطلاب القادمين من الشرق الأوسط بــــ 31,248 طالباً فقط، وهو عدد قليل جداً، مع انخفاض عدد الطلاب السعوديين بعد أحداث 11سبتمبر، فقد انخفضت نسبتهم بعد تلك الأحداث إلى 14%، ليصل عددهم إلى 3,035 طالباً فقط، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإمارات العربية التي انخفض عدد طلابها بنسبة 7% ليصل إلى 1,720، والأردن بنسبة 5% ليصل إلى 1,754.(6)
لكن السعودية أقرت، في العامين الماضيين، برنامجاً طموحاً لتبادل تعليمي مع الولايات المتحدة الأمريكية (أقر البرنامج كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش والملك عبدالله بن عبدالعزيز)،
ومن خلال هذا البرنامج، تضاعف عدد المبتعثين السعوديين خمس مرات بنهاية العام الدراسي 2007م. وتتحمل الحكومة السعودية كل نفقات المبتعثين،
وقد سجلت الإدارة الأمريكية حوالي 10 آلاف طالب للفترة الدراسية التي بدأت في خريف 2007م وقد ارتفع عدد الطلاب السعوديين بحلول شهر يناير 2008م إلى 15 ألف طالب،
ما يعني أن السعودية ستتفوق على المكسيك وتركيا في عدد الطلاب الذين تم إرسالهم للدراسة في الولايات المتحدة، وكلما زاد التوسع في تمويل برنامج الابتعاث أو المنح الدراسية، زاد احتمال تنامي عدد هؤلاء الطلاب.(7)
وفي بعض الإحصاءات أن عدد السعوديين المبتعثين إلى دول العالم المختلفة يتجاوز اليوم العشرين ألفاً. ومما يؤخذ على البعثات التعليمية السعودية، تاريخياً، عدم العناية بنوعية التخصصات التي يبتعث من أجلها الطلاب، إذ تفتقر في الغالب إلى التخطيط السليم، الذي يستجيب لمتطلبات التنمية الحديثة في البلاد، وغالباً ما يغترب الطلاب السعوديون من أجل الانخراط في تخصصات قائمة في جامعات بلادهم، بل أكثر من ذلك؛ فإن من المعروف أن أغلبهم يلتحقون بتخصصات نظرية، أو في العلوم الإنسانية، وهو ما لا يشكل ضرورة ملحة لمتطلبات التنمية في بلادهم، وبهذا؛ فإن نسبة المتخصصين في الفيزياء والعلوم والرياضيات مثلاً ليسوا بالقدر الكافي المطلوب الذي تحتاجه البلاد. ويمكن أن تؤخذ البلدان الآسيوية الأخرى قدوة في هذا المجال، ولاسيما الهند، التي يكاد يقتصر الابتعاث فيها على العلوم والرياضيات والهندسة
لابد أن نعترف بشجاعة أن "حكمة" هذا العصر ليست موجودة عندنا، ونحن لا يمكن أن نصل إليها، أو أن نستحوذها، إلا بالتعلم على أيدي الأمم التي تمتلكها، والتي تحقق في مجالها، كل يوم، معجزات جديدة لم يعد من السهل أو اليسير اللحاق بها. إن تقوقعنا، في السابق، هو الذي خلق هذه الفجوة الهائلة اليوم بيننا وبين غيرنا، ولا ريب في أن هذه الفجوة ستزداد تفاقماً إذا ما بقينا على ما نحن عليه من تقوقع، أو حتى إذا اكتفينا بزحف بطيء متثاقل، العالم من حولنا لم يعد يقنع بالمشي الحثيث نحو أهدافه وإنجازاته، بل أنه يركض مثل الريح باتجاه تلك الأهداف والإنجازات. والابتعاث إلى الدول المتقدمة لا ينبغي أن يكون غاية في ذاته، بل في أهدافه وفي المرتجى والمتوقع منه، فهناك اليوم علوم ومعارف صارت هي المفاتيح المفضية إلى المستقبل، ونحن لا نريد مزيداً من حاملي "الشهادات العليا"، نريد بالأحرى مزيداً ممن يكتسبون "الخبرات العالية" في تكنولوجيات العصر، نحن متخمون بأصحاب "الشهادات"، في الوقت الذي نعاني فيه من الفقر والعوز في أصحاب "الخبرات" والعلماء في الفيزياء والرياضيات وسواها من العلوم التي أخرجت لنا الهند بوجهها المشرق الجديد، وكذلك الصين وماليزيا، ولا ننسى سنغافورة التي تحتاج وحدها إلى فصول من الدرس والتأمل، فتجربة هذه الدولة الصغيرة التي انتقلت من بيوت القش والصفيح إلى نظام اقتصادي وتكنولوجي ملفت، هي تجربة جديرة بالمتابعة وهي أهل للإكبار الشديد. إن الابتعاث لغير تلك الغايات هو إهدار للمال والوقت، وهو افتئات على الحاضر والمستقبل
د.فهد العرابي الحارثي ( باحث سعودي )