رومانوس
24/04/2008, 11:00
معقولية الكائن
اولاً: الطروحات التي يعتنقها من ينفي معقولية الكائن
1) أمام الواقع الوجودي يجد العقل الإنساني ذاته في مواجهة مع معضلة الشر والألم والموت دون ان يجد حلاً لها. في هذا الموقف يتجذر الإلحاد وهذا مما يدفع الملحد الى رفض معقولية الكائن والوجود.
2) ما يمكن تأكيده عند الملحد هو حريّة الإنسان كقيمة تمكنه من الخيار بين أمور العالم الحسي أو المادي. وهي ما تكشف له ان الحقيقة المطلقة ليست سوى انعكاس لامتناهي لإمكانات الإنسان.
3) فالحياة زائفة والكائن كل كائن مقفل على ذاته. فكل شيء إذن هو نسبي والنسبية تشكل المقياس الوحيد التي تمكنني من فهم أمور الحياة. فالإنسان محكوم في ذاته على ان يبقى دون أي انفلات أو تجاوز أي دون معنى لكيانه ودون حقيقة.
ثانياً: نقد هذه الطروحات:
1) هذه الطروحات لا يمكن تبريرها لسبب هام اولي وهو: انه لا يمكن تبرير حكم كلّي سلبي. لإصدار حكم سلبي يتوجب منطقياً معرفة إمكانات ما يتم نفيه بصورة كاملة. فالقول بأن الكائن لا معنى له، يفترض معرفة كاملة لإمكانات الكائن التي نكون في صدد نفيها. فكيف ننفي شيئاً لا نعرفه؟ إذا الحكم السلبي يتخطى إمكانات العقل ويتجاوزها مدّعياً التكلم باسمها.
2) تأكيد لامعقولية الكائن: ان تأكيد لامعقولية الكائن لا يحتوي على اية حقيقة، لان نقطة انطلاقه التي تبدو ظاهراً إنها تنطلق من الواقع لا تأخذ لها سنداً في الجزئي بل تتخذ أولا من كلّية الكائن منطلقاً، وتعتبره كائناً محدوداً مغلقاً على ذاته لا إمكانية لديه في أي ارتقاء أو انفتاح. لذلك يمكن وصف هذا الحكم بأنه حكم تركيبي قبلي. فهو لا يشمل كلّية الكائن بل يتخذ من ناحية معيّنة للكائن منطلقاً لحكمه، وكل معرفة جانبية تبقى نسبية.
3) التعميم الاستقرائي: التعميم الاستقرائي ليس صارما ولا يعطيني تأكيد نهائي، لانه بحاجة الى تدقيق ومراجعة لا يمكن تحقيقها.
4) ان الحكم السلبي لا يشبع شغف الإنسان للمعرفة ولا يعطيه سوى الحزن والارتياب.
ثالثاً: الطروحات التي تؤهلنا تأكيد معقولية الكائن
1) ما يمكننا تأكيده هو: أي حكم إيجابي يحمل معنى للكائن يحتوي بذاته على تبرير ممكن حتى ولو ان هذا الحكم الإيجابي لا يستند الى معرفة لكلّية الكائن. فهو يستند اقله الى اختبار إيجابي للكائن. لذلك نقول ان تأكيد وجود حقيقة مطلقة أي معنى تأكيد معقولية الكائن هذا التأكيد لديه حظوظ ليكون صحيحاً لانه يستند او ينطلق من الكائن ذاته آخذاً في الاعتبار إمكاناته كلّها.
2) ما يوجب تأكيد معقولية الكائن من خلال اختبارنا الكياني، هو اولاً واساساً السؤال أو الاستفهام الذي نطرحه على كياننا.
_ ان الإنسان كائن يتساءل على ذاته عن معنى وجوده ومعنى وجود الكون ومعنى الحياة. وهذا السؤال ليس سؤلاً عرضياً ولا وهمياً بل هو ينبثق من أعماق الانسان، ويعبّر عن مقاسات الإنسان في أبعادها كلّها انه سؤال رصين ينتظر جواباً رصينا.
- الكائن الذي يطرح السؤال على ذاته يتطلب جواباً، والسؤال هذا يبقى سؤالا طالما لم يجد له الإنسان جواباً يمكن ان يروي غليل الانتظار فيه طالما يبقى السؤال مطروحاً فهذا يعني ان الجواب لا يوجد داخل الإنسان، لانه ان كان الجواب فيّ فان السؤال لن يعود له مبرّر، فاستمرار التساؤل حتى عند الملحد يدل على ان الإنسان هو في انتظار دائم أي في موقف الامل والرجاء ليجد جوابا. فالكائن يبدو للانسان على انه يحمل املاً. أي ان الانسان يفهم الكائن على انه يحوي معنى ممكنا أي انه معقول.
ما هي قيمة تأكيد المعقولية؟
1) هذا الإدراك للكائن على انه يحوي معنى ممكنا يستند الى تأكدين اثنين:
- تأكيد الذات أي تأكيد الإنسان في ذاته او ذات الإنسان الذي يطرح السؤال والذي ينتظر الجواب.
- تأكيد مثالية الكائن المطلق كحقيقة قصوى أي كإمكانية جواب.
2) ماذا يعني هذين التأكدين؟: هذا يعني ان الإنسان يمتلك في ذاته علّة كيانية كافية أي انه يمتلك مبرّر كياني كافي.
ان العلّة (او المبرّر الكيانية) لا توجد فيه بما انه كائن متسائل، لان وجود العلّة ينفي السؤال والانتظار.
3) فهذه العلّة لا يمكن ان توجد الا في كائن آخر. في الكائن الآخر الذي هو وحده يمكن ان يحمل الجواب المطلق والكلّي والحق.
الكائن المحدود كفعل وجود (مفهوم الشخص).
1) لقد شرحنا الصيرورة في الكون من خلال ثنائية الشكل والمادة. المادة كقوة وجود تتطلب شكلاً معيّناً والشكل كتحديد أو كتحقيق لهذه القوّة.
2) على مستوى الشخص البشري الصيرورة هي أحادية المنحى، أي ان هناك ارتقاء نحو الوعي الذاتي أي نحو الحريّة التي تمتلك ذاتها، يعني انه على مستوى الشخص فالقوّة تتحقق من خلال أفعال. لذلك لا يصح القول بان هناك انفصال بين القوة والفعل.
3) هذا الفعل هو في الوقت ذاته فعل كياني محقق وفعل كياني في طريق التحقيق والوجود. أي ان الشيء ذاته هو موجود ومحقق وهو على طريق التحقيق والوجود. هذا يعني ان كل شخص بشري يتمتع بثنائية وجودية فهو من ناحية أولى فهو فعل وجود أي مصدر صيرورته ومصدر تحقيق ذاته. ومن ناحية ثانية فهو قوة وجود تتحقق أي ماهية تتحقق.
هذه الثنائية على المستوى الشخصي هي تآلفية بين هذين العنصرين وبالتالي فان الشخص هو كيان وجودي يتجاوز تعارض هذين العنصرين.
4) يمكن القول بان فعل الوجود كفعل هو غير محدود، وانه لا يمكن ان يحقق ذاته الا من خلال فعل وجود محدود ومعيّن. فالفعل لا يتحقق خارج الصيرورة، والصيرورة هي دوماً صيرورة كائن معيّن محدود. هذه المحدودية كشكل وجودي معيّن يجب ان نفهمها كتعبير عن الذات وهذا الشكل الوجودي هو في الوقت ذاته تحقيق للذات وتحديد لها.
5) يمكننا اذن التمييز بين ماهية الكائن وفعل وجوده. وهو تمييز بين مبدأين لا بين كائنين، يعني مبدأين ثنائيين غير منفصلين. فالماهية هي القوة الشخصية التي تنال الوجود. ما هي هذه الماهية؟ وما هو هذا الفعل الذي يوجد الماهية ويحققها أي يحددها؟
1) الماهية:الماهية هي طبيعة الشيء الخاصة به. هي مجموعة خصائص التي تكوّن الشيء، والتي تمكننا من تحديده. يحدد القديس توما الماهية كالتالي:" تعني الماهية كل ما هو مشترك في طبيعته كائنات يمكن تصنيفها وفق الجنس والنوع. فنقول ان الإنسانية هي ماهية الإنسان... فالماهية هي ما يجعل الشيء يكون كما هو ... فالماهية تعني ما هو به او بواسطته يصبح الكائن موجود ..."
الماهية هي ما يشكل عمق واقع معيّن أي الصفات الأساسية لشيء ما أي ما هو الشيء في ذاته حتماً إذا كان موجودا.
فالماهية تتعلق بما هو حتمي او ضروري أي انها تحتوي على كل ما يمكن للعقل ان يؤكده كضروري لشيء ما.
الماهية يقابلها مفهوم العرض. ويمكن مقابلتها بمفهوم الجوهر. والماهية تتعارض مع مفهوم الوجود او ما يمكن ان نقول الكينونة. فالتفكير بماهية شيء ما لا يعني ان هذا الشيء هو موجود فعلا. فيمكنني ان أفكر مثلا بعروس البحر دون ان يكون هذا الكائن موجوداً بالفعل.
2) الوجود او الكينونة: ليست الكينونة فكرة الوجود، انما هي الوجود الحقيقي الواقعي أي الوجود المحسوس الذي يمكننا ادراكه مباشرة من خلال الحواس. فالوجود لا يمكن استنتاجه من العقل. فماهية الشيء لا تحتم بالضرورة وجود الشيء. الوجود ليس صفة لاي مفهوم وهو ليس عنصراً من العناصر التي تؤلف مفهوم الشيء. فيمكن عندئذ استخراج ثلاثة نتائج:
- ان الوجود ليس مفهوم بل هو واقع الوجود في مكان معيّن. ان نقول بان شيء ما هو موجود فهذا القول لا يعني ماهية الشيء، بل يضع علاقة بين فكرة الشيء وما هو مغاير للفكرة أي الوجود.
- فالوجود هو موضوع اختبار حسي، هو واقع نتحسّسه ولا يمكننا برهنته، يمكن القول بان غرض الفلسفة هو المفاهيم وليس الكينونات. فالوجود هو ما نعاينه حسّياً ولا يمكن ان ننسبه الى فكرة ما.
- فالوجود بما انه خارج المفاهيم الفكرية، فهو لا معنى نظري له، فهو ما يشكل حدوداً للعقل بما اننا غير قادرين ان نبرهن الوجود بواسطة العقل فقط.
العلاقة بين الماهية والوجود: الماهية والكينونة في كائن ما او في شيء ما هما محددين بالنسبة لهذا الكائن او ذاك. ولا يمكن تحديدهما بشكل مغاير. فالموضوع هنا لا يتعلق بفهمنا ان هناك كائنات موجودة محدودة، بل ان نفهم إمكانية وجود هذه الكائنات. وانطلاقا من اختبارنا الأساسي لوجودنا وتساؤلنا عن ذاتنا، ولتأكيد ذاتنا يمكننا التميّز بين ثلاثة:
1) فعل الوجود أي القوة الفاعلة التي تؤكد الوجود أي الشخص في ذاته.
2) ماهية هذه القوة الفاعلة أي طبيعتها.
3) كينونة هذه القوة التي تؤكد وجودها.
هذا التمييز بين الماهية والكينونة هو تميز نظري في القوة الفاعلة أي في الشخص الذي يؤكد ذاته كفعل وجود. لكي نفهم العلاقة بين الماهية والوجود يمكننا القول مثلا: بين الفكرة والكلمة، فالفكرة لا توجد الا في الكلمة أي ان هناك أولوية منطقية وليست زمنية للفكرة بالنسبة للكلمة. فالفكرة تتجه حتما للتعبير عن ذاتها ولا يمكن إدراكها مباشرة الا من خلال الكلمة.
هذا التشبيه التماثلي يمكن تطبيقه ايضا على المفاهيم كافة التي وردت لدينا بين الكائن الكلي والجزئي، بين القوة والفعل، بين المادة والروح، الماهية والكينونة... وبالعودة الى بعض الفلاسفة، فاننا نرى تعارضا بين طروحاتهم. فمنهم من أعطى الماهية موقع الصدارة ومنهم من اعطى الكينونة أساس كل واقع. بالنسبة لافلاطون يقول ان وجود الشيء يأتيه من انه انعكاس للفكرة ولا يمكننا ان نبلغ ماهية الشيء الا بواسطة "التذكر".
الماهية بالنسبة لسارتر وهيدغر، تخرج من الوجود، والانسان لا ماهية له تكون مصدرا لوجوده، فالانسان هو اولا في موقع ما في هذا الكون هو كائن _ هنا أي انه كينونة انطلاقا منها عليه ان يحدد ماهيته.
مفهوم الشخص
I - إن التميز بين الماهية وفعل الوجود تؤهلنا لفهم اكبر لمفهوم الشخص. فالكائن الذي يحدد ذاته كائن معين، أي كائن موحداً في ذاته هو الشخص. هذا يعني ان الشخص الذي يؤكد ذاته يتميز:
1) عن فعل الوجـود، لان الشخص هو كائن بذاته بينما فعل الوجود ليس قائماً بذاته.
2) عن الماهية أي ان الشخص هو كائن وهو صائر، والماهية تعكس اتجاه دينامية الشخص فهي الإطار لصيرورته.
II - فإذا لم يكن الشخص لا فعل الوجود فقط ولا الماهية فقط، وبما انه خارج هذين العنصرين لكل كائن محدود، لا وجود فعلي لهذا الكائن، فما الذي يشكّل كيان الشخص في ذاته؟
III- عناصر الشخص:
1) يوجد الشخص عند تقاطع هذين العنصرين.
2) يجب تأكيد الأولوية الانطولوجية والزمنية للشخص بالنسبة لهذين العنصرين، فهما مبدئان بينما وحده الشخص هو الكائن الموجود حقاً.
3) من خلال اختبارنا اليومي لمسؤوليتنا لذاتنا ولتحمّلنا لهذه المسؤولية يمكننا ان نفهم وحدة الشخص.
4) فالذي يكوّن الشخص في ذاته هو فعل الحرية الذي من خلاله يكون الشخص قائم بذاته.
5) من خلال فعل الحرية الذي يتحمّل الشخص ذاته به، أي يتحمّل مسؤولية ذاته من خلال هذا الفعل الذي هو تعبير محدد لفعل الوجود الكلي، فان الشخص هو الفعل الكياني بشكل محدود وعلى طريقته، وهذا الشخص هو قائم بذاته ، لانه فعل تقبّل حرّ لذاته. وعلى هذا المستوى يمكننا القول بان الحتمية والحرية هما متوازيان في الشخص ذاته.
علاقة الحرية بالحتمية
أ) الحرية هي مصدر نهائي لنظرتنا الى العالم. وهذا الكون مكوّن من الأشياء التي تحيط بنا، وهو مجموع علاقتنا الإنسانية مع الآخرين، وهذا ما يكوّن البشرية. هذا الكون هو الواقع التي تعمل من خلاله الحرية، وهذا يعني المكان والزمان والتاريخ. هذه النقطة شيئين:
اولا: لا يوجد عالم قائم بذاته منفصل عن الكائن الروحي.
ثانيا: لا يمكن للإنسان ان يوجد بدون هذا العالم، أي انه يوجد بصورة أساسية في الفعل الذي يهب ذاته فيه العالم.
ب) يجد الإنسان ذاته منغمسا في الحياة وفي العالم، فيصارع ويجهد ليلتقط ذاته بواسطة التفكير أي العمل الفكري أي بواسطة العقل. فالتفكير هو فعل إرادة حرة لفهم عمل ما، انه اختبار الحرية في الذات الشخصية. هذا يعني ايضاً ان الإنسان يعي ذاته انه مبدأ كل فعل فهو يعبر عن ذاته في الفعل ويحقق ذاته في هذا التعبير. تحقيق الذات يعني ان اصير ما هو انا، هذا يعني ان الإنسان عليه ان يقبل بكل حرية ما هو عليه حتماً.
الإنسان هو اذن سيد ذاته ليخلق ذاته أي انه من الضروري ان اخلق ذاتي. ماذا يعني اخلق ذاتي او اوجد ذاتي؟.
اخلق ذاتي في وضع معيّن أي في زمان ومكان وتاريخ أي في عالم متعدد الإمكانات. انما معنى هذا الفعل يبقى غير واضح المعالم في أبعاده اذ هذا الإنسان غير قادر على تغير الواقع كما يرغب وأمام الشر يعي الإنسان عرضيته. هذا يعني ان الإنسان يواجه معضلة حريته التي لا يمكن ان يعبر عنها الا من خلال الحتمية.
ج) الحرية لا يمكن ان تتحقق بمعزل عن الحريات التي للآخرين، أي ان الحرية تتحقق في التواصل مع الآخرين. واختبارنا الاصلي ككائن روحي يفترض تعدد الكائنات الروحية اذ لا يـمكـن إدراك كـائـن روحـي منـفصل بـذاته ومقـفـل عـلى ذاته.
د) الحرية لا يمكن ان توجد بدون ارادة وجود غير محدودة أي ارادة منفتحة على الكائن الواحد الكلي. هذا يعني ان الانسان هو حرية تتحقق دون ان يكون الحضور النهائي لذاتها. مثلا عندما اؤكد حريتي اقول انا موجود "الانا" هو طريقة وجودي ككائن محدود وتعبير موجود هو الكائن الذي اتحمله وهو غير محدود. هذا يعني انني طريقة وجود معينة أي ان التحديد صادر عني وانني اهدف لان اصبح الكائن الكلي. بتعبير آخر هذا يعني انني احقق بذاتي المحدودة هذا الكائن للامحدود كشخص حيّ.
هـ) فالشخص هو هذا الكائن الحاضر الى ذاته بفعل ارادة ذاته لذاته. فهناك تضامن بين كياني المحدود والكائن الكلي أي ان حريتي هي مطلب كياني انما لا يمكن ان توجد الحرية الا في فعل محدود. فالشخص اذن يحتوي بذاته على دينامية أي ان الشخص الذي يتصرف بحريّة ذاته يخلق واقع غير موجود فيه سابقاً بالفعل، أي انه من خلال تعدد فعله الحر يخلق وحدة ذاته، فالحرية هي اذن مطلب الكلّية.
خلاصة: ان الشخص ككائن هو الوجود المثالي المتفوق، هذا يعني ان الاساس هو الوجود وكل ما هو باقي يدخل في خانة الملكية.
يمكننا تحديد الشخص كما يلي: الشخص هو الفعل الجوهري الحر الذي تحمل فيه(الفعل) الكائن الكلي في تعبيره المحدود.
أنا شخص أنا أتحمل ابعاد وجودي كلّها وتحقيق كامل إنسانيتي من خلال محدوديتي هذه.
اولاً: الطروحات التي يعتنقها من ينفي معقولية الكائن
1) أمام الواقع الوجودي يجد العقل الإنساني ذاته في مواجهة مع معضلة الشر والألم والموت دون ان يجد حلاً لها. في هذا الموقف يتجذر الإلحاد وهذا مما يدفع الملحد الى رفض معقولية الكائن والوجود.
2) ما يمكن تأكيده عند الملحد هو حريّة الإنسان كقيمة تمكنه من الخيار بين أمور العالم الحسي أو المادي. وهي ما تكشف له ان الحقيقة المطلقة ليست سوى انعكاس لامتناهي لإمكانات الإنسان.
3) فالحياة زائفة والكائن كل كائن مقفل على ذاته. فكل شيء إذن هو نسبي والنسبية تشكل المقياس الوحيد التي تمكنني من فهم أمور الحياة. فالإنسان محكوم في ذاته على ان يبقى دون أي انفلات أو تجاوز أي دون معنى لكيانه ودون حقيقة.
ثانياً: نقد هذه الطروحات:
1) هذه الطروحات لا يمكن تبريرها لسبب هام اولي وهو: انه لا يمكن تبرير حكم كلّي سلبي. لإصدار حكم سلبي يتوجب منطقياً معرفة إمكانات ما يتم نفيه بصورة كاملة. فالقول بأن الكائن لا معنى له، يفترض معرفة كاملة لإمكانات الكائن التي نكون في صدد نفيها. فكيف ننفي شيئاً لا نعرفه؟ إذا الحكم السلبي يتخطى إمكانات العقل ويتجاوزها مدّعياً التكلم باسمها.
2) تأكيد لامعقولية الكائن: ان تأكيد لامعقولية الكائن لا يحتوي على اية حقيقة، لان نقطة انطلاقه التي تبدو ظاهراً إنها تنطلق من الواقع لا تأخذ لها سنداً في الجزئي بل تتخذ أولا من كلّية الكائن منطلقاً، وتعتبره كائناً محدوداً مغلقاً على ذاته لا إمكانية لديه في أي ارتقاء أو انفتاح. لذلك يمكن وصف هذا الحكم بأنه حكم تركيبي قبلي. فهو لا يشمل كلّية الكائن بل يتخذ من ناحية معيّنة للكائن منطلقاً لحكمه، وكل معرفة جانبية تبقى نسبية.
3) التعميم الاستقرائي: التعميم الاستقرائي ليس صارما ولا يعطيني تأكيد نهائي، لانه بحاجة الى تدقيق ومراجعة لا يمكن تحقيقها.
4) ان الحكم السلبي لا يشبع شغف الإنسان للمعرفة ولا يعطيه سوى الحزن والارتياب.
ثالثاً: الطروحات التي تؤهلنا تأكيد معقولية الكائن
1) ما يمكننا تأكيده هو: أي حكم إيجابي يحمل معنى للكائن يحتوي بذاته على تبرير ممكن حتى ولو ان هذا الحكم الإيجابي لا يستند الى معرفة لكلّية الكائن. فهو يستند اقله الى اختبار إيجابي للكائن. لذلك نقول ان تأكيد وجود حقيقة مطلقة أي معنى تأكيد معقولية الكائن هذا التأكيد لديه حظوظ ليكون صحيحاً لانه يستند او ينطلق من الكائن ذاته آخذاً في الاعتبار إمكاناته كلّها.
2) ما يوجب تأكيد معقولية الكائن من خلال اختبارنا الكياني، هو اولاً واساساً السؤال أو الاستفهام الذي نطرحه على كياننا.
_ ان الإنسان كائن يتساءل على ذاته عن معنى وجوده ومعنى وجود الكون ومعنى الحياة. وهذا السؤال ليس سؤلاً عرضياً ولا وهمياً بل هو ينبثق من أعماق الانسان، ويعبّر عن مقاسات الإنسان في أبعادها كلّها انه سؤال رصين ينتظر جواباً رصينا.
- الكائن الذي يطرح السؤال على ذاته يتطلب جواباً، والسؤال هذا يبقى سؤالا طالما لم يجد له الإنسان جواباً يمكن ان يروي غليل الانتظار فيه طالما يبقى السؤال مطروحاً فهذا يعني ان الجواب لا يوجد داخل الإنسان، لانه ان كان الجواب فيّ فان السؤال لن يعود له مبرّر، فاستمرار التساؤل حتى عند الملحد يدل على ان الإنسان هو في انتظار دائم أي في موقف الامل والرجاء ليجد جوابا. فالكائن يبدو للانسان على انه يحمل املاً. أي ان الانسان يفهم الكائن على انه يحوي معنى ممكنا أي انه معقول.
ما هي قيمة تأكيد المعقولية؟
1) هذا الإدراك للكائن على انه يحوي معنى ممكنا يستند الى تأكدين اثنين:
- تأكيد الذات أي تأكيد الإنسان في ذاته او ذات الإنسان الذي يطرح السؤال والذي ينتظر الجواب.
- تأكيد مثالية الكائن المطلق كحقيقة قصوى أي كإمكانية جواب.
2) ماذا يعني هذين التأكدين؟: هذا يعني ان الإنسان يمتلك في ذاته علّة كيانية كافية أي انه يمتلك مبرّر كياني كافي.
ان العلّة (او المبرّر الكيانية) لا توجد فيه بما انه كائن متسائل، لان وجود العلّة ينفي السؤال والانتظار.
3) فهذه العلّة لا يمكن ان توجد الا في كائن آخر. في الكائن الآخر الذي هو وحده يمكن ان يحمل الجواب المطلق والكلّي والحق.
الكائن المحدود كفعل وجود (مفهوم الشخص).
1) لقد شرحنا الصيرورة في الكون من خلال ثنائية الشكل والمادة. المادة كقوة وجود تتطلب شكلاً معيّناً والشكل كتحديد أو كتحقيق لهذه القوّة.
2) على مستوى الشخص البشري الصيرورة هي أحادية المنحى، أي ان هناك ارتقاء نحو الوعي الذاتي أي نحو الحريّة التي تمتلك ذاتها، يعني انه على مستوى الشخص فالقوّة تتحقق من خلال أفعال. لذلك لا يصح القول بان هناك انفصال بين القوة والفعل.
3) هذا الفعل هو في الوقت ذاته فعل كياني محقق وفعل كياني في طريق التحقيق والوجود. أي ان الشيء ذاته هو موجود ومحقق وهو على طريق التحقيق والوجود. هذا يعني ان كل شخص بشري يتمتع بثنائية وجودية فهو من ناحية أولى فهو فعل وجود أي مصدر صيرورته ومصدر تحقيق ذاته. ومن ناحية ثانية فهو قوة وجود تتحقق أي ماهية تتحقق.
هذه الثنائية على المستوى الشخصي هي تآلفية بين هذين العنصرين وبالتالي فان الشخص هو كيان وجودي يتجاوز تعارض هذين العنصرين.
4) يمكن القول بان فعل الوجود كفعل هو غير محدود، وانه لا يمكن ان يحقق ذاته الا من خلال فعل وجود محدود ومعيّن. فالفعل لا يتحقق خارج الصيرورة، والصيرورة هي دوماً صيرورة كائن معيّن محدود. هذه المحدودية كشكل وجودي معيّن يجب ان نفهمها كتعبير عن الذات وهذا الشكل الوجودي هو في الوقت ذاته تحقيق للذات وتحديد لها.
5) يمكننا اذن التمييز بين ماهية الكائن وفعل وجوده. وهو تمييز بين مبدأين لا بين كائنين، يعني مبدأين ثنائيين غير منفصلين. فالماهية هي القوة الشخصية التي تنال الوجود. ما هي هذه الماهية؟ وما هو هذا الفعل الذي يوجد الماهية ويحققها أي يحددها؟
1) الماهية:الماهية هي طبيعة الشيء الخاصة به. هي مجموعة خصائص التي تكوّن الشيء، والتي تمكننا من تحديده. يحدد القديس توما الماهية كالتالي:" تعني الماهية كل ما هو مشترك في طبيعته كائنات يمكن تصنيفها وفق الجنس والنوع. فنقول ان الإنسانية هي ماهية الإنسان... فالماهية هي ما يجعل الشيء يكون كما هو ... فالماهية تعني ما هو به او بواسطته يصبح الكائن موجود ..."
الماهية هي ما يشكل عمق واقع معيّن أي الصفات الأساسية لشيء ما أي ما هو الشيء في ذاته حتماً إذا كان موجودا.
فالماهية تتعلق بما هو حتمي او ضروري أي انها تحتوي على كل ما يمكن للعقل ان يؤكده كضروري لشيء ما.
الماهية يقابلها مفهوم العرض. ويمكن مقابلتها بمفهوم الجوهر. والماهية تتعارض مع مفهوم الوجود او ما يمكن ان نقول الكينونة. فالتفكير بماهية شيء ما لا يعني ان هذا الشيء هو موجود فعلا. فيمكنني ان أفكر مثلا بعروس البحر دون ان يكون هذا الكائن موجوداً بالفعل.
2) الوجود او الكينونة: ليست الكينونة فكرة الوجود، انما هي الوجود الحقيقي الواقعي أي الوجود المحسوس الذي يمكننا ادراكه مباشرة من خلال الحواس. فالوجود لا يمكن استنتاجه من العقل. فماهية الشيء لا تحتم بالضرورة وجود الشيء. الوجود ليس صفة لاي مفهوم وهو ليس عنصراً من العناصر التي تؤلف مفهوم الشيء. فيمكن عندئذ استخراج ثلاثة نتائج:
- ان الوجود ليس مفهوم بل هو واقع الوجود في مكان معيّن. ان نقول بان شيء ما هو موجود فهذا القول لا يعني ماهية الشيء، بل يضع علاقة بين فكرة الشيء وما هو مغاير للفكرة أي الوجود.
- فالوجود هو موضوع اختبار حسي، هو واقع نتحسّسه ولا يمكننا برهنته، يمكن القول بان غرض الفلسفة هو المفاهيم وليس الكينونات. فالوجود هو ما نعاينه حسّياً ولا يمكن ان ننسبه الى فكرة ما.
- فالوجود بما انه خارج المفاهيم الفكرية، فهو لا معنى نظري له، فهو ما يشكل حدوداً للعقل بما اننا غير قادرين ان نبرهن الوجود بواسطة العقل فقط.
العلاقة بين الماهية والوجود: الماهية والكينونة في كائن ما او في شيء ما هما محددين بالنسبة لهذا الكائن او ذاك. ولا يمكن تحديدهما بشكل مغاير. فالموضوع هنا لا يتعلق بفهمنا ان هناك كائنات موجودة محدودة، بل ان نفهم إمكانية وجود هذه الكائنات. وانطلاقا من اختبارنا الأساسي لوجودنا وتساؤلنا عن ذاتنا، ولتأكيد ذاتنا يمكننا التميّز بين ثلاثة:
1) فعل الوجود أي القوة الفاعلة التي تؤكد الوجود أي الشخص في ذاته.
2) ماهية هذه القوة الفاعلة أي طبيعتها.
3) كينونة هذه القوة التي تؤكد وجودها.
هذا التمييز بين الماهية والكينونة هو تميز نظري في القوة الفاعلة أي في الشخص الذي يؤكد ذاته كفعل وجود. لكي نفهم العلاقة بين الماهية والوجود يمكننا القول مثلا: بين الفكرة والكلمة، فالفكرة لا توجد الا في الكلمة أي ان هناك أولوية منطقية وليست زمنية للفكرة بالنسبة للكلمة. فالفكرة تتجه حتما للتعبير عن ذاتها ولا يمكن إدراكها مباشرة الا من خلال الكلمة.
هذا التشبيه التماثلي يمكن تطبيقه ايضا على المفاهيم كافة التي وردت لدينا بين الكائن الكلي والجزئي، بين القوة والفعل، بين المادة والروح، الماهية والكينونة... وبالعودة الى بعض الفلاسفة، فاننا نرى تعارضا بين طروحاتهم. فمنهم من أعطى الماهية موقع الصدارة ومنهم من اعطى الكينونة أساس كل واقع. بالنسبة لافلاطون يقول ان وجود الشيء يأتيه من انه انعكاس للفكرة ولا يمكننا ان نبلغ ماهية الشيء الا بواسطة "التذكر".
الماهية بالنسبة لسارتر وهيدغر، تخرج من الوجود، والانسان لا ماهية له تكون مصدرا لوجوده، فالانسان هو اولا في موقع ما في هذا الكون هو كائن _ هنا أي انه كينونة انطلاقا منها عليه ان يحدد ماهيته.
مفهوم الشخص
I - إن التميز بين الماهية وفعل الوجود تؤهلنا لفهم اكبر لمفهوم الشخص. فالكائن الذي يحدد ذاته كائن معين، أي كائن موحداً في ذاته هو الشخص. هذا يعني ان الشخص الذي يؤكد ذاته يتميز:
1) عن فعل الوجـود، لان الشخص هو كائن بذاته بينما فعل الوجود ليس قائماً بذاته.
2) عن الماهية أي ان الشخص هو كائن وهو صائر، والماهية تعكس اتجاه دينامية الشخص فهي الإطار لصيرورته.
II - فإذا لم يكن الشخص لا فعل الوجود فقط ولا الماهية فقط، وبما انه خارج هذين العنصرين لكل كائن محدود، لا وجود فعلي لهذا الكائن، فما الذي يشكّل كيان الشخص في ذاته؟
III- عناصر الشخص:
1) يوجد الشخص عند تقاطع هذين العنصرين.
2) يجب تأكيد الأولوية الانطولوجية والزمنية للشخص بالنسبة لهذين العنصرين، فهما مبدئان بينما وحده الشخص هو الكائن الموجود حقاً.
3) من خلال اختبارنا اليومي لمسؤوليتنا لذاتنا ولتحمّلنا لهذه المسؤولية يمكننا ان نفهم وحدة الشخص.
4) فالذي يكوّن الشخص في ذاته هو فعل الحرية الذي من خلاله يكون الشخص قائم بذاته.
5) من خلال فعل الحرية الذي يتحمّل الشخص ذاته به، أي يتحمّل مسؤولية ذاته من خلال هذا الفعل الذي هو تعبير محدد لفعل الوجود الكلي، فان الشخص هو الفعل الكياني بشكل محدود وعلى طريقته، وهذا الشخص هو قائم بذاته ، لانه فعل تقبّل حرّ لذاته. وعلى هذا المستوى يمكننا القول بان الحتمية والحرية هما متوازيان في الشخص ذاته.
علاقة الحرية بالحتمية
أ) الحرية هي مصدر نهائي لنظرتنا الى العالم. وهذا الكون مكوّن من الأشياء التي تحيط بنا، وهو مجموع علاقتنا الإنسانية مع الآخرين، وهذا ما يكوّن البشرية. هذا الكون هو الواقع التي تعمل من خلاله الحرية، وهذا يعني المكان والزمان والتاريخ. هذه النقطة شيئين:
اولا: لا يوجد عالم قائم بذاته منفصل عن الكائن الروحي.
ثانيا: لا يمكن للإنسان ان يوجد بدون هذا العالم، أي انه يوجد بصورة أساسية في الفعل الذي يهب ذاته فيه العالم.
ب) يجد الإنسان ذاته منغمسا في الحياة وفي العالم، فيصارع ويجهد ليلتقط ذاته بواسطة التفكير أي العمل الفكري أي بواسطة العقل. فالتفكير هو فعل إرادة حرة لفهم عمل ما، انه اختبار الحرية في الذات الشخصية. هذا يعني ايضاً ان الإنسان يعي ذاته انه مبدأ كل فعل فهو يعبر عن ذاته في الفعل ويحقق ذاته في هذا التعبير. تحقيق الذات يعني ان اصير ما هو انا، هذا يعني ان الإنسان عليه ان يقبل بكل حرية ما هو عليه حتماً.
الإنسان هو اذن سيد ذاته ليخلق ذاته أي انه من الضروري ان اخلق ذاتي. ماذا يعني اخلق ذاتي او اوجد ذاتي؟.
اخلق ذاتي في وضع معيّن أي في زمان ومكان وتاريخ أي في عالم متعدد الإمكانات. انما معنى هذا الفعل يبقى غير واضح المعالم في أبعاده اذ هذا الإنسان غير قادر على تغير الواقع كما يرغب وأمام الشر يعي الإنسان عرضيته. هذا يعني ان الإنسان يواجه معضلة حريته التي لا يمكن ان يعبر عنها الا من خلال الحتمية.
ج) الحرية لا يمكن ان تتحقق بمعزل عن الحريات التي للآخرين، أي ان الحرية تتحقق في التواصل مع الآخرين. واختبارنا الاصلي ككائن روحي يفترض تعدد الكائنات الروحية اذ لا يـمكـن إدراك كـائـن روحـي منـفصل بـذاته ومقـفـل عـلى ذاته.
د) الحرية لا يمكن ان توجد بدون ارادة وجود غير محدودة أي ارادة منفتحة على الكائن الواحد الكلي. هذا يعني ان الانسان هو حرية تتحقق دون ان يكون الحضور النهائي لذاتها. مثلا عندما اؤكد حريتي اقول انا موجود "الانا" هو طريقة وجودي ككائن محدود وتعبير موجود هو الكائن الذي اتحمله وهو غير محدود. هذا يعني انني طريقة وجود معينة أي ان التحديد صادر عني وانني اهدف لان اصبح الكائن الكلي. بتعبير آخر هذا يعني انني احقق بذاتي المحدودة هذا الكائن للامحدود كشخص حيّ.
هـ) فالشخص هو هذا الكائن الحاضر الى ذاته بفعل ارادة ذاته لذاته. فهناك تضامن بين كياني المحدود والكائن الكلي أي ان حريتي هي مطلب كياني انما لا يمكن ان توجد الحرية الا في فعل محدود. فالشخص اذن يحتوي بذاته على دينامية أي ان الشخص الذي يتصرف بحريّة ذاته يخلق واقع غير موجود فيه سابقاً بالفعل، أي انه من خلال تعدد فعله الحر يخلق وحدة ذاته، فالحرية هي اذن مطلب الكلّية.
خلاصة: ان الشخص ككائن هو الوجود المثالي المتفوق، هذا يعني ان الاساس هو الوجود وكل ما هو باقي يدخل في خانة الملكية.
يمكننا تحديد الشخص كما يلي: الشخص هو الفعل الجوهري الحر الذي تحمل فيه(الفعل) الكائن الكلي في تعبيره المحدود.
أنا شخص أنا أتحمل ابعاد وجودي كلّها وتحقيق كامل إنسانيتي من خلال محدوديتي هذه.