dot
30/04/2008, 22:43
بقلــم : ثائر ديـــب
بخلاف نبرات تقديس إدوارد سعيد التي راحت تتصاعد بعد وفاته، حاملةً معها خطرَ تحويله إلى "أيقونة" وإضفاءَ طابع "العصمة" عليه، أرى أن عمل سعيد لم يعد من الممكن أن يُفهَمَ حق فهمه من غير ذلك النقد الذي انهمر سيولاً من كلِّ فجٍّ وصوب، من اليمين واليسار، ما إن ظهر كتابُه الاستشراق في العام 1978.
لقد دفعت الضغوطُ الفوكوية إدوارد سعيد لأن يضع ظاهرة الاستشراق في سياقٍ تاريخيٍّ معيَّن هو حركة توسُّع أوروبا البرجوازية الحديثة على حساب بقية العالم، الأمر الذي يَرُدُّ بداياتِ الخطاب الاستشراقي إلى القرن الثامن عشر أو نحوه. غير أن سعيدًا لا يلبث، بدفعٍ من الضغوط الأورباخي [1] ، أن يُرجِعَ أصولَ الاستشراق والخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة، إلى هوميروس وإسخيلوس وإفرپيدس، مفترضًا، مثل إريك أورباخ، أن ثمة خطابًا أو بناءً إپستيميًّا يطاول كامل التاريخ الغربي ونصوصه، على هيئة خطٍّ مستمرٍّ من اليونان القديمة إلى أوروبا وأمريكا الحديثتين. وهكذا يقدِّم سعيد تعريفين متضاربين للاستشراق يمكِّنانه من أن يجنِّد كلا الموقفين، الفوكوي والأورباخي في آنٍ معًا، وذلك في ضرب من "التسوية المستحيلة"، كما يصفها إعجاز أحمد، بين الإنسانوية الرفيعة، كما يمثِّل لها أورباخ، واللاإنسانوية في أعتى أشكالها، كما يمثِّل لها فوكو.
وإذْ يصوِّر سعيد "غربًا" هو نفسه من فجر التاريخ إلى الآن، على هيئة كيان متطابق مع ذاته ومتجانس وثابت وعابر للتاريخ والنصوص، فإنه يعود بنا "من الباب الخلفي"، كما يقول صادق جلال العظم، إلى أسطورة "الطبائع الثابتة" وميتافيزيقا الاستشراق اللتين كان سعيد قد انطلق في الأصل للإجهاز عليهما بفصلهما ذلك الفصل المطلق بين الشرق والغرب وزعمهما أن لكلٍّ من الشرق والغرب طبيعتَه الجوهرية المختلفة وخصائصَه المغايِرة كلَّ المغايَرة. هكذا لا تعود ظاهرةُ الاستشراق وليدةَ شروطٍ تاريخية معينة أو استجابةً لمصالح وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة، بل صارت إفرازًا طبيعيًّا عتيقًا ومستمرًّا يولِّده "العقل الغربي" الذي يبدو، في نظر سعيد، مضطرًّا، بطبيعته نفسها، إلى إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوَّهة عن واقع الشعوب الأخرى، محقِّرة لمجتمعاتها وثقافاتها، بغية تأكيد ذاته والإعلاء من شأن "تفوُّقه".
الخطاب الاستشراقي
بل إن سعيدًا، الذي يميز بين "الاستشراق الثقافي الأكاديمي"، بوصفه حقلاً معرفيًّا وتصورًا متكاملاً بنتْه أوروبا عن الشرق، وبين "مؤسسة الاستشراق"، بوصفها أداةَ توسُّع أوروبيٍّ نحو الشرق وقوةً ماديةً فاعلةً في هذا الاتجاه، إنما يجعل الاستشراق الثقافي الأكاديمي ذلك المصدر الذي نبعتْ منه مؤسسةُ الاستشراق، وليس العكس. وهذا ما يدفع سعيدًا، كما يذكِّرنا العظم، لأنْ يرى أن "فكرة قناة السويس"، على سبيل المثال، هي نتيجة منطقية لفكر الاستشراق وجهوده أكثر بكثير منها نتيجة طبيعية للتنافس الفرنسي–الإنكليزي على بناء الإمبراطورية والحفاظ عليها عِبْرَ الهيمنة على الشرق. وفي المقابل، فإن هذا ما يدفع إعجاز أحمد إلى التذكير بالبديهية القائلة بأن تواريخ الاستغلال الاقتصادي والقهر السياسي والفتح العسكري هي التي تلعب الدور الأساسي التكويني في خلق الشروط التي تمكِّن من قيام ما يدعوه سعيد "الخطاب الاستشراقي"، وليس العكس.
وكما كانت لافتةً محاولةُ الجمع بين فوكو وأورباخ، فإن تناوُل سعيد لمسألة "التمثيل" ومدى اقترابه من الحقيقة أو ابتعاده عنها هو لافتٌ بالمقدار نفسه: فنحن نقرأ في لحظةٍ أن كتاب الاستشراق حاول أن يبيِّن أن "الإسلام قد أُسيء تمثيلُه في الغرب [...]"؛ لكننا نقرأ، في الصفحة التالية مباشرة، أن فكرة سعيد بأكملها عن منظومة الاستشراق "ليست أنها إساءة تمثيل لضرب من الجوهر الشرقي [...]". غير أن الأخطر هو السؤال الأساسي الذي يطرحه سعيد بين هاتين الجملتين عما
[...] إذا كان يمكن أن يوجد تمثيل حقيقي لأيِّ شيء على الإطلاق، أم أن جميع التمثيلات بلا استثناء، وبسببٍ من كونها تمثيلاتٍ حصرًا، تغور عميقًا في لغة الممثِّل، أولاً، ثم في ثقافته ومؤسَّساته وجوِّه السياسي. وإذا ما كان البديل الثاني هو الصحيح (كما أؤمن) فإن علينا أن نكون على استعداد لقبول حقيقة أن أيَّ تمثيل هو، بحكم طبيعته، متورط، متشابك، منتسج مع عدد كبير جدًّا من الأشياء الأخرى، إلى جانب "الحقيقة" التي هي، بدورها، مجرد تمثيل.
هكذا يدخل سعيد العالمَ النيتشوي الذي ينفي إمكانية قيام أيِّ تمثيل حقيقي أو التفوه بأية أقوال صادقة، بل حيث يسود الشك في "وقائعية" الوقائع ذاتها. وهذا ما قيَّض لسعيد أن يكون مثالاً يدفع عددًا كبيرًا من المؤرخين والنقاد والباحثين حول العالم إلى وضع كلمة "واقعة" بين أهلَّة تشكِّك في وجودها في ضرب من اللاعقلانية الحديثة التي استشرتْ وغدت موضةً رائجة.
وإذْ يأتي سعيد إلى علاقة العقل الفردي باللغة المؤسَّسية الرسمية، التي هي لغةٌ جمعية أو لغة الجمع، نجد أنه يصوغ للفكر ما يبدو وكأنه قانون عام مفاده أَنْ
[...] ليس في وسع أيِّ باحث [...] أن يقاوم ضغوط أمَّته أو ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه.
فحتى لو تمكنت عبقرية فردية، مثل ماسينيون أو ماركس، من الخروج على الثقافة السائدة، التي يراها سعيد على أنها ثقافة الأمَّة التي تحتل الفضاء الثقافي بكامله دون أن تتيح مجالاً لوجود ثقافة نقيضة، فإن الفرد لا يلبث أن يعود لينسحق في الأمَّة التي تظل باقيةً في استمراريتها كأنها مطلق يتجدد. أولسنا هنا أمام تنويع من تنويعات الفكر القومي الذي يتعزز بواقعة أن كتاب الاستشراق لا يتفوه بكلمة واحدة عن أيِّ خطأ من طرفنا، حيث تبدو جميع آثامنا وجرائمنا أمرًا باهتًا بالمقارنة مع تلك القوى التي جعلتْنا ضحايا ودفعت بنا إلى الدرك الأسفل، نحن أصحاب "البراءة الأصلية" الدائمة، كما يروق لتلك الأشكال العاطفية المتطرفة من قوميات العالم الثالث أن تصوِّرنا؟
تبعًا لهذا المنطق الأخير، وبعد أن أعطى سعيد "الخطاب الاستشراقي" هذا المدى التاريخي كلَّه وهذا التسيُّد كلَّه، ربما كان من قبيل تحصيل الحاصل، عند تعامُله مع دانتي و"جحيمه"، أن ينتزع تمثيلات دانتي من سياق إنتاجها ضمن خطاب الثنائيات المسيحية التي تقابل بين "الإيمان" و"البدعة" وضمن بدايات النهضة التي راحت تترك أثرَها على هذه الثنائيات، ليعيد وضعَ هذه التمثيلات في خطاب الاستشراق المختلف تمامًا، مهملاً أن دانتي يضع ابن رشد على قدم المساواة مع سقراط وأن المعاملة التي يلقاها ابن رشد في خيال دانتي لم تكن أسوأ من المعاملة التي لقيها في الحياة العادية من قِبَل سلطات زمنه العربية المسلمة التي أمرتْ بنفيه وحرق كتبه!
أما ماسينيون، فعلى الرغم من عجزه في النهاية عن مقاومة ضغوط أمَّته بحسب منطق سعيد، فإنه يظل "بطل" كتاب الاستشراق، حيث يصف سعيد إسهامَه بأنه "الأعظم" في مجال الدراسات الشرقية، نظرًا لمقاربته الشرق تلك المقاربة التي تقوم على "حدس فرديٍّ ذي أبعاد روحية"، مما تفرَّد به ماسينيون، فتماهى مع "روح الشرق" حتى أمكن له أن يتجاوز بنية الفكر الاستشراقي – هذا مع أن سعيدًا نفسه يعلم أن ماسينيون كان قد حمل معه بضاعة الاستشراق التقليدية الفاسدة كلَّها، إذ كان يطابِق الشرق مع عالم "أهل الكهف" و"الأدعية الإبراهيمية" وينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها نزاع بين إسحق وإسماعيل، فضلاً عن أن مشورته كانت مطلوبةً على نطاق واسع، بوصفه خبيرًا في الشؤون الإسلامية، من جانب الحكومات الاستعمارية. ولعل الذي أراح سعيدًا لتأويلات ماسينيون الميتافيزيقية الصوفية هو انسجامها، كما يقول العظم، مع نزعات سعيد المثالية عمومًا على المستوى الإيديولوجي والذاتية النسبية على المستوى الإپستمولوجي.
ماركس المُدافع عن الاستعمار!
والحال، فإن هذه الرؤية التي تجد أن المقاربة الوحيدة التي يمكن لها أن تنجو من خطر الوقوع في منطق الفكر الغربي الاستشراقي هي مقاربة روحية تأتي الشرق من جهة القلب والحدس دون العقل هي الرؤية التي يقع ماركس ضحيتها عند سعيد، حيث يرسم له صورةً كاريكاتورية تمثِّله خارجًا على بنية الفكر الاستشراقي من جهة القلب، وعائدًا ليندرج فيه مدافعًا عن الاستعمار من جهة العقل. وبهذا يُشطَر ماركس شطرين لا سبيل إلى اجتماعهما – وكل ذلك من خلال مقطع صحافي واحد عن الحكم البريطاني في الهند، يتأوَّله سعيد على أنه تعبير عن اضمحلال ما أبداه ماركس في البداية من تعاطُف مع "آسيا البائسة" وتلاشيه أمام تقدُّم لغة الاستشراق التي تتمكن من القضاء على تجربةٍ إنسانيةٍ تلقائيةٍ حيويةٍ والحلول محلها.
وفي المقابل، فإن مهدي عامل كان قد أخضع المقطعَ ذاته لقراءة أخرى مناقضة تمامًا لقراءة سعيد التي وَصَفَها عامل بأنها مشوِّهة، تتَّسم بالخفة وتستبدل بالسؤال المادي التاريخي الذي يطرحه ماركس "هل يستطيع الإنسان أن يحقِّق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا؟" سؤالاً أخلاقيًّا يرفضه ماركس في نصِّه ويرفض أن يكون هو السؤال الحق. أما إعجاز أحمد فقد بيَّن أن سعيدًا يبتسر في شدة ضروب التعقيد في فكر ماركس: فشجبُ ماركس للمجتمع ما قبل الاستعماري في الهند ليس أعنف من شجبه لماضي أوروبا الإقطاعي، ولضروب الحكم المطلق، وللفلاحين الأوروبيين الغارقين في "بلاهة الحياة الريفية"، وللبرجوازية الألمانية التي أبدى حيالها أشد الاشمئزاز. أما تصوُّر ماركس أن تلعب الكولونيالية دورًا "تقدميًّا" معينًا فهو تصوُّر لا يرتبط بالخطاب الاستشراقي، بل بتصوره للدور التقدمي الذي يمكن للرأسمالية ذاتها أن تلعبه بالمقارنة مع ما سبقها، سواء داخل أوروبا أم خارجها. وإذا ما كان قد ثبت خطأ هذه الفكرة في ما بعد، فإن ماركس في حينه لم تكن بَعْدُ أمامه تجربةُ الاستعمار الناضج لكلٍّ من آسيا وأفريقيا، وما كان أمامه هي التجربة الأمريكية الشمالية، حيث راح ينبثق مجتمعٌ رأسمالي قوي انطلاقًا من دينامية كولونيالية متوحشة.
حال ما بعد "الاستشراق"؟
يكاد يكون من المؤكد أن سعيدًا لم يتراجع عن ردِّه الخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة. وعلى الأقل، فإننا لا نجد عكس ذلك في مقالته "إعادة النظر في الاستشراق" (1984)، ولا في تذييله للطبعة الجديدة من الاستشراق في العام 1995. غير أن سعيدًا أبدى، في المقابل، ابتعادًا لافتًا عن فوكو، حيث نجد في مقالته "ارتحال النظرية" نقدًا لفوكو يكاد ينطبق تمامًا على سعيد نفسه في الاستشراق:
إن توق فوكو لئلا يقع في شراك الاقتصادوية الماركسية إنَّما يسوقه إلى طمس دور الطبقات، دور الاقتصاد، دور التمرد والثورة في المجتمعات التي يتناولها. [...] المشكلة هي أن استخدام فوكو لمصطلح القوة يفرط في تنقُّله من مكان إلى آخر، مبتلعًا كلَّ عقبة في طريقه، [...] طامسًا التغيير ومعمِّيًا على سيادته المادية الدقيقة. [...] تاريخ فوكو هو في النهاية تاريخ نصي أو مضفًى عليه الطابع النصي بالأحرى؛ وصيغته هي تلك الصيغة التي يمكن لبورخيس أن يجدها مألوفةً [...]. فهي، أي حفريات فوكو، لا تترك أدنى مجال للحركات الصاعدة، أو الثورات، أو الهيمنة المضادة، أو الكتل التاريخية.
ولقد تَرافَق هذا الابتعاد عن فوكو بتراجعٍ عن الموقف النيتشوي الذي يرى إلى التمثيلات جميعًا على أنها ضروب من سوء التمثيل؛ كما تَرافَق باعتراف بوجود المقاومة، وبإفساح المجال أمام مواجهة تاريخية بين صوت "المستشرق" والأصوات الكثيرة التي سبق القول إن الاستشراق قد أخمدها تمامًا. وهذا ما نجد أفضل تعبير عنه في كتاب سعيد الثقافة والإمپريالية.
وفي حين كان يصعب علينا، في كتابَي سعيد الاستشراق وتغطية الإسلام، أن نميز موقفَه من موقف الفكر القومي الصريح، حيث سرديات الإثم الأوروبي والبراءة غير الأوروبية، فإن ذلك قد تغيَّر تغيرًا دراماتيكيًّا بدءًا من العام 1984 تقريبًا، ليغدو رفضًا متزايدَ الحدَّة للقومية والحدود القومية والأمم ذاتها، رفضًا يبلغ حدَّ التطرف في بعض الأحيان ويدعو إلى الاحتراس، شأنه شأن الموقف المتطرف السابق. ومن مبالغات سعيد في هذا الشأن جزمُه، الذي يكاد أن يكون مطلقًا، بأن العمل الموثوق الوحيد الذي يمكن إنجازُه في أيامنا هو عمل يجب أن يكون من أصل عالمثالثي متضافر مع موقع في المتروپوليس الغربية. وهذا واحد من أسباب تلك الأهمية التي يحظى بها المنفيون والمهاجرون لدى سعيد، ربما في إساءةٍ بعض الشيء إلى المثقفين الذين يعيشون ويعملون في بلدانهم.
أما موقف سعيد من الماركسية، فيمكن القول إنه ظل ملتبسًا وغريبًا على الأقل. وأمام هذا الموقف، ربما كان علينا أن نبذل جهدًا كبيرًا لنذكِّر أنفسنا بأن أهمَّ مرجعيات سعيد، مثل غرامشي ولوكاش وفانون وإيميه سيزير وريموند وليامز وسي.ل.ر. جيمس والعروي وراناجيت جحا وكثيرين آخرين، كانوا ماركسيين بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى. هكذا يبدو غريبًا، على سبيل المثال، قولُ سعيد في كتابه العالم، النص، الناقد:
إن وصف نقدٍ ما بأنه "ماركسي" هو نوع من الإرداف الخلفي الذي يجمع بين لفظتين متناقضتين؛ وإن النتيجة النهائية لهذا الجمع تتمثل لا بالإعلان عن انحيازٍ سياسيٍّ وحسب، بل أيضًا بوضع المرء نفسه خارج قَدْرٍ كبيرٍ من الأشياء الجارية في هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى.
سعيد لا يبين لنا ما هي الأشياء التي حَرَمَ كلٌّ من غرامشي أو لوكاش أو ريموند وليامز أنفسهم منها بقيامهم بما قاموا به من نقد ماركسي صريح. وهو لا يقول لنا أيضًا ما إذا كان من الممكن لأحد أن يضع نفسه داخل سائر الأشياء الجارية في هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى من دون أن يتحيز موقعًا بعينه أو ينطلق منه.
غير أنه ينبغي أن يكون واضحًا كلَّ الوضوح أن ما يمكن لنا أن ندعوه "أخطاء" سعيد تبقى من ذلك النوع الذي يقال إن فرويد وماركس، على سبيل المثال، قد ارتكباه: فمبالغة فرويد في دور الجنس قادتْه إلى اكتشاف قارة اللاوعي؛ وتركيز ماركس على دور الاقتصاد قاده إلى الكشف عن آلية عمل الرأسمالية. هكذا فتح الاستشراق عهدًا جديدًا وميدانًا كاملاً من البحث الذي يعيد قراءةَ الأعمال الثقافية المعتمَدة والمكرَّسة بقصد الإسهام في حلِّ أزمات عالمنا وتناقضاته ومظالمه، عبر تحليل الآراء والأساطير والصور النمطية القارَّة التي تمثِّل عَرَضًا من أعراض هذه الأزمات وسببًا من أسباب ديمومتها.
* * *
[1] نسبةً إلى إريك أورباخ، صاحب كتاب المحاكاة الشهير.
بخلاف نبرات تقديس إدوارد سعيد التي راحت تتصاعد بعد وفاته، حاملةً معها خطرَ تحويله إلى "أيقونة" وإضفاءَ طابع "العصمة" عليه، أرى أن عمل سعيد لم يعد من الممكن أن يُفهَمَ حق فهمه من غير ذلك النقد الذي انهمر سيولاً من كلِّ فجٍّ وصوب، من اليمين واليسار، ما إن ظهر كتابُه الاستشراق في العام 1978.
لقد دفعت الضغوطُ الفوكوية إدوارد سعيد لأن يضع ظاهرة الاستشراق في سياقٍ تاريخيٍّ معيَّن هو حركة توسُّع أوروبا البرجوازية الحديثة على حساب بقية العالم، الأمر الذي يَرُدُّ بداياتِ الخطاب الاستشراقي إلى القرن الثامن عشر أو نحوه. غير أن سعيدًا لا يلبث، بدفعٍ من الضغوط الأورباخي [1] ، أن يُرجِعَ أصولَ الاستشراق والخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة، إلى هوميروس وإسخيلوس وإفرپيدس، مفترضًا، مثل إريك أورباخ، أن ثمة خطابًا أو بناءً إپستيميًّا يطاول كامل التاريخ الغربي ونصوصه، على هيئة خطٍّ مستمرٍّ من اليونان القديمة إلى أوروبا وأمريكا الحديثتين. وهكذا يقدِّم سعيد تعريفين متضاربين للاستشراق يمكِّنانه من أن يجنِّد كلا الموقفين، الفوكوي والأورباخي في آنٍ معًا، وذلك في ضرب من "التسوية المستحيلة"، كما يصفها إعجاز أحمد، بين الإنسانوية الرفيعة، كما يمثِّل لها أورباخ، واللاإنسانوية في أعتى أشكالها، كما يمثِّل لها فوكو.
وإذْ يصوِّر سعيد "غربًا" هو نفسه من فجر التاريخ إلى الآن، على هيئة كيان متطابق مع ذاته ومتجانس وثابت وعابر للتاريخ والنصوص، فإنه يعود بنا "من الباب الخلفي"، كما يقول صادق جلال العظم، إلى أسطورة "الطبائع الثابتة" وميتافيزيقا الاستشراق اللتين كان سعيد قد انطلق في الأصل للإجهاز عليهما بفصلهما ذلك الفصل المطلق بين الشرق والغرب وزعمهما أن لكلٍّ من الشرق والغرب طبيعتَه الجوهرية المختلفة وخصائصَه المغايِرة كلَّ المغايَرة. هكذا لا تعود ظاهرةُ الاستشراق وليدةَ شروطٍ تاريخية معينة أو استجابةً لمصالح وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة، بل صارت إفرازًا طبيعيًّا عتيقًا ومستمرًّا يولِّده "العقل الغربي" الذي يبدو، في نظر سعيد، مضطرًّا، بطبيعته نفسها، إلى إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوَّهة عن واقع الشعوب الأخرى، محقِّرة لمجتمعاتها وثقافاتها، بغية تأكيد ذاته والإعلاء من شأن "تفوُّقه".
الخطاب الاستشراقي
بل إن سعيدًا، الذي يميز بين "الاستشراق الثقافي الأكاديمي"، بوصفه حقلاً معرفيًّا وتصورًا متكاملاً بنتْه أوروبا عن الشرق، وبين "مؤسسة الاستشراق"، بوصفها أداةَ توسُّع أوروبيٍّ نحو الشرق وقوةً ماديةً فاعلةً في هذا الاتجاه، إنما يجعل الاستشراق الثقافي الأكاديمي ذلك المصدر الذي نبعتْ منه مؤسسةُ الاستشراق، وليس العكس. وهذا ما يدفع سعيدًا، كما يذكِّرنا العظم، لأنْ يرى أن "فكرة قناة السويس"، على سبيل المثال، هي نتيجة منطقية لفكر الاستشراق وجهوده أكثر بكثير منها نتيجة طبيعية للتنافس الفرنسي–الإنكليزي على بناء الإمبراطورية والحفاظ عليها عِبْرَ الهيمنة على الشرق. وفي المقابل، فإن هذا ما يدفع إعجاز أحمد إلى التذكير بالبديهية القائلة بأن تواريخ الاستغلال الاقتصادي والقهر السياسي والفتح العسكري هي التي تلعب الدور الأساسي التكويني في خلق الشروط التي تمكِّن من قيام ما يدعوه سعيد "الخطاب الاستشراقي"، وليس العكس.
وكما كانت لافتةً محاولةُ الجمع بين فوكو وأورباخ، فإن تناوُل سعيد لمسألة "التمثيل" ومدى اقترابه من الحقيقة أو ابتعاده عنها هو لافتٌ بالمقدار نفسه: فنحن نقرأ في لحظةٍ أن كتاب الاستشراق حاول أن يبيِّن أن "الإسلام قد أُسيء تمثيلُه في الغرب [...]"؛ لكننا نقرأ، في الصفحة التالية مباشرة، أن فكرة سعيد بأكملها عن منظومة الاستشراق "ليست أنها إساءة تمثيل لضرب من الجوهر الشرقي [...]". غير أن الأخطر هو السؤال الأساسي الذي يطرحه سعيد بين هاتين الجملتين عما
[...] إذا كان يمكن أن يوجد تمثيل حقيقي لأيِّ شيء على الإطلاق، أم أن جميع التمثيلات بلا استثناء، وبسببٍ من كونها تمثيلاتٍ حصرًا، تغور عميقًا في لغة الممثِّل، أولاً، ثم في ثقافته ومؤسَّساته وجوِّه السياسي. وإذا ما كان البديل الثاني هو الصحيح (كما أؤمن) فإن علينا أن نكون على استعداد لقبول حقيقة أن أيَّ تمثيل هو، بحكم طبيعته، متورط، متشابك، منتسج مع عدد كبير جدًّا من الأشياء الأخرى، إلى جانب "الحقيقة" التي هي، بدورها، مجرد تمثيل.
هكذا يدخل سعيد العالمَ النيتشوي الذي ينفي إمكانية قيام أيِّ تمثيل حقيقي أو التفوه بأية أقوال صادقة، بل حيث يسود الشك في "وقائعية" الوقائع ذاتها. وهذا ما قيَّض لسعيد أن يكون مثالاً يدفع عددًا كبيرًا من المؤرخين والنقاد والباحثين حول العالم إلى وضع كلمة "واقعة" بين أهلَّة تشكِّك في وجودها في ضرب من اللاعقلانية الحديثة التي استشرتْ وغدت موضةً رائجة.
وإذْ يأتي سعيد إلى علاقة العقل الفردي باللغة المؤسَّسية الرسمية، التي هي لغةٌ جمعية أو لغة الجمع، نجد أنه يصوغ للفكر ما يبدو وكأنه قانون عام مفاده أَنْ
[...] ليس في وسع أيِّ باحث [...] أن يقاوم ضغوط أمَّته أو ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه.
فحتى لو تمكنت عبقرية فردية، مثل ماسينيون أو ماركس، من الخروج على الثقافة السائدة، التي يراها سعيد على أنها ثقافة الأمَّة التي تحتل الفضاء الثقافي بكامله دون أن تتيح مجالاً لوجود ثقافة نقيضة، فإن الفرد لا يلبث أن يعود لينسحق في الأمَّة التي تظل باقيةً في استمراريتها كأنها مطلق يتجدد. أولسنا هنا أمام تنويع من تنويعات الفكر القومي الذي يتعزز بواقعة أن كتاب الاستشراق لا يتفوه بكلمة واحدة عن أيِّ خطأ من طرفنا، حيث تبدو جميع آثامنا وجرائمنا أمرًا باهتًا بالمقارنة مع تلك القوى التي جعلتْنا ضحايا ودفعت بنا إلى الدرك الأسفل، نحن أصحاب "البراءة الأصلية" الدائمة، كما يروق لتلك الأشكال العاطفية المتطرفة من قوميات العالم الثالث أن تصوِّرنا؟
تبعًا لهذا المنطق الأخير، وبعد أن أعطى سعيد "الخطاب الاستشراقي" هذا المدى التاريخي كلَّه وهذا التسيُّد كلَّه، ربما كان من قبيل تحصيل الحاصل، عند تعامُله مع دانتي و"جحيمه"، أن ينتزع تمثيلات دانتي من سياق إنتاجها ضمن خطاب الثنائيات المسيحية التي تقابل بين "الإيمان" و"البدعة" وضمن بدايات النهضة التي راحت تترك أثرَها على هذه الثنائيات، ليعيد وضعَ هذه التمثيلات في خطاب الاستشراق المختلف تمامًا، مهملاً أن دانتي يضع ابن رشد على قدم المساواة مع سقراط وأن المعاملة التي يلقاها ابن رشد في خيال دانتي لم تكن أسوأ من المعاملة التي لقيها في الحياة العادية من قِبَل سلطات زمنه العربية المسلمة التي أمرتْ بنفيه وحرق كتبه!
أما ماسينيون، فعلى الرغم من عجزه في النهاية عن مقاومة ضغوط أمَّته بحسب منطق سعيد، فإنه يظل "بطل" كتاب الاستشراق، حيث يصف سعيد إسهامَه بأنه "الأعظم" في مجال الدراسات الشرقية، نظرًا لمقاربته الشرق تلك المقاربة التي تقوم على "حدس فرديٍّ ذي أبعاد روحية"، مما تفرَّد به ماسينيون، فتماهى مع "روح الشرق" حتى أمكن له أن يتجاوز بنية الفكر الاستشراقي – هذا مع أن سعيدًا نفسه يعلم أن ماسينيون كان قد حمل معه بضاعة الاستشراق التقليدية الفاسدة كلَّها، إذ كان يطابِق الشرق مع عالم "أهل الكهف" و"الأدعية الإبراهيمية" وينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها نزاع بين إسحق وإسماعيل، فضلاً عن أن مشورته كانت مطلوبةً على نطاق واسع، بوصفه خبيرًا في الشؤون الإسلامية، من جانب الحكومات الاستعمارية. ولعل الذي أراح سعيدًا لتأويلات ماسينيون الميتافيزيقية الصوفية هو انسجامها، كما يقول العظم، مع نزعات سعيد المثالية عمومًا على المستوى الإيديولوجي والذاتية النسبية على المستوى الإپستمولوجي.
ماركس المُدافع عن الاستعمار!
والحال، فإن هذه الرؤية التي تجد أن المقاربة الوحيدة التي يمكن لها أن تنجو من خطر الوقوع في منطق الفكر الغربي الاستشراقي هي مقاربة روحية تأتي الشرق من جهة القلب والحدس دون العقل هي الرؤية التي يقع ماركس ضحيتها عند سعيد، حيث يرسم له صورةً كاريكاتورية تمثِّله خارجًا على بنية الفكر الاستشراقي من جهة القلب، وعائدًا ليندرج فيه مدافعًا عن الاستعمار من جهة العقل. وبهذا يُشطَر ماركس شطرين لا سبيل إلى اجتماعهما – وكل ذلك من خلال مقطع صحافي واحد عن الحكم البريطاني في الهند، يتأوَّله سعيد على أنه تعبير عن اضمحلال ما أبداه ماركس في البداية من تعاطُف مع "آسيا البائسة" وتلاشيه أمام تقدُّم لغة الاستشراق التي تتمكن من القضاء على تجربةٍ إنسانيةٍ تلقائيةٍ حيويةٍ والحلول محلها.
وفي المقابل، فإن مهدي عامل كان قد أخضع المقطعَ ذاته لقراءة أخرى مناقضة تمامًا لقراءة سعيد التي وَصَفَها عامل بأنها مشوِّهة، تتَّسم بالخفة وتستبدل بالسؤال المادي التاريخي الذي يطرحه ماركس "هل يستطيع الإنسان أن يحقِّق مصيره دون ثورة جذرية في الوضع الاجتماعي لآسيا؟" سؤالاً أخلاقيًّا يرفضه ماركس في نصِّه ويرفض أن يكون هو السؤال الحق. أما إعجاز أحمد فقد بيَّن أن سعيدًا يبتسر في شدة ضروب التعقيد في فكر ماركس: فشجبُ ماركس للمجتمع ما قبل الاستعماري في الهند ليس أعنف من شجبه لماضي أوروبا الإقطاعي، ولضروب الحكم المطلق، وللفلاحين الأوروبيين الغارقين في "بلاهة الحياة الريفية"، وللبرجوازية الألمانية التي أبدى حيالها أشد الاشمئزاز. أما تصوُّر ماركس أن تلعب الكولونيالية دورًا "تقدميًّا" معينًا فهو تصوُّر لا يرتبط بالخطاب الاستشراقي، بل بتصوره للدور التقدمي الذي يمكن للرأسمالية ذاتها أن تلعبه بالمقارنة مع ما سبقها، سواء داخل أوروبا أم خارجها. وإذا ما كان قد ثبت خطأ هذه الفكرة في ما بعد، فإن ماركس في حينه لم تكن بَعْدُ أمامه تجربةُ الاستعمار الناضج لكلٍّ من آسيا وأفريقيا، وما كان أمامه هي التجربة الأمريكية الشمالية، حيث راح ينبثق مجتمعٌ رأسمالي قوي انطلاقًا من دينامية كولونيالية متوحشة.
حال ما بعد "الاستشراق"؟
يكاد يكون من المؤكد أن سعيدًا لم يتراجع عن ردِّه الخطاب الاستشراقي إلى اليونان القديمة. وعلى الأقل، فإننا لا نجد عكس ذلك في مقالته "إعادة النظر في الاستشراق" (1984)، ولا في تذييله للطبعة الجديدة من الاستشراق في العام 1995. غير أن سعيدًا أبدى، في المقابل، ابتعادًا لافتًا عن فوكو، حيث نجد في مقالته "ارتحال النظرية" نقدًا لفوكو يكاد ينطبق تمامًا على سعيد نفسه في الاستشراق:
إن توق فوكو لئلا يقع في شراك الاقتصادوية الماركسية إنَّما يسوقه إلى طمس دور الطبقات، دور الاقتصاد، دور التمرد والثورة في المجتمعات التي يتناولها. [...] المشكلة هي أن استخدام فوكو لمصطلح القوة يفرط في تنقُّله من مكان إلى آخر، مبتلعًا كلَّ عقبة في طريقه، [...] طامسًا التغيير ومعمِّيًا على سيادته المادية الدقيقة. [...] تاريخ فوكو هو في النهاية تاريخ نصي أو مضفًى عليه الطابع النصي بالأحرى؛ وصيغته هي تلك الصيغة التي يمكن لبورخيس أن يجدها مألوفةً [...]. فهي، أي حفريات فوكو، لا تترك أدنى مجال للحركات الصاعدة، أو الثورات، أو الهيمنة المضادة، أو الكتل التاريخية.
ولقد تَرافَق هذا الابتعاد عن فوكو بتراجعٍ عن الموقف النيتشوي الذي يرى إلى التمثيلات جميعًا على أنها ضروب من سوء التمثيل؛ كما تَرافَق باعتراف بوجود المقاومة، وبإفساح المجال أمام مواجهة تاريخية بين صوت "المستشرق" والأصوات الكثيرة التي سبق القول إن الاستشراق قد أخمدها تمامًا. وهذا ما نجد أفضل تعبير عنه في كتاب سعيد الثقافة والإمپريالية.
وفي حين كان يصعب علينا، في كتابَي سعيد الاستشراق وتغطية الإسلام، أن نميز موقفَه من موقف الفكر القومي الصريح، حيث سرديات الإثم الأوروبي والبراءة غير الأوروبية، فإن ذلك قد تغيَّر تغيرًا دراماتيكيًّا بدءًا من العام 1984 تقريبًا، ليغدو رفضًا متزايدَ الحدَّة للقومية والحدود القومية والأمم ذاتها، رفضًا يبلغ حدَّ التطرف في بعض الأحيان ويدعو إلى الاحتراس، شأنه شأن الموقف المتطرف السابق. ومن مبالغات سعيد في هذا الشأن جزمُه، الذي يكاد أن يكون مطلقًا، بأن العمل الموثوق الوحيد الذي يمكن إنجازُه في أيامنا هو عمل يجب أن يكون من أصل عالمثالثي متضافر مع موقع في المتروپوليس الغربية. وهذا واحد من أسباب تلك الأهمية التي يحظى بها المنفيون والمهاجرون لدى سعيد، ربما في إساءةٍ بعض الشيء إلى المثقفين الذين يعيشون ويعملون في بلدانهم.
أما موقف سعيد من الماركسية، فيمكن القول إنه ظل ملتبسًا وغريبًا على الأقل. وأمام هذا الموقف، ربما كان علينا أن نبذل جهدًا كبيرًا لنذكِّر أنفسنا بأن أهمَّ مرجعيات سعيد، مثل غرامشي ولوكاش وفانون وإيميه سيزير وريموند وليامز وسي.ل.ر. جيمس والعروي وراناجيت جحا وكثيرين آخرين، كانوا ماركسيين بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى. هكذا يبدو غريبًا، على سبيل المثال، قولُ سعيد في كتابه العالم، النص، الناقد:
إن وصف نقدٍ ما بأنه "ماركسي" هو نوع من الإرداف الخلفي الذي يجمع بين لفظتين متناقضتين؛ وإن النتيجة النهائية لهذا الجمع تتمثل لا بالإعلان عن انحيازٍ سياسيٍّ وحسب، بل أيضًا بوضع المرء نفسه خارج قَدْرٍ كبيرٍ من الأشياء الجارية في هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى.
سعيد لا يبين لنا ما هي الأشياء التي حَرَمَ كلٌّ من غرامشي أو لوكاش أو ريموند وليامز أنفسهم منها بقيامهم بما قاموا به من نقد ماركسي صريح. وهو لا يقول لنا أيضًا ما إذا كان من الممكن لأحد أن يضع نفسه داخل سائر الأشياء الجارية في هذه الدنيا وفي ضروب النقد الأخرى من دون أن يتحيز موقعًا بعينه أو ينطلق منه.
غير أنه ينبغي أن يكون واضحًا كلَّ الوضوح أن ما يمكن لنا أن ندعوه "أخطاء" سعيد تبقى من ذلك النوع الذي يقال إن فرويد وماركس، على سبيل المثال، قد ارتكباه: فمبالغة فرويد في دور الجنس قادتْه إلى اكتشاف قارة اللاوعي؛ وتركيز ماركس على دور الاقتصاد قاده إلى الكشف عن آلية عمل الرأسمالية. هكذا فتح الاستشراق عهدًا جديدًا وميدانًا كاملاً من البحث الذي يعيد قراءةَ الأعمال الثقافية المعتمَدة والمكرَّسة بقصد الإسهام في حلِّ أزمات عالمنا وتناقضاته ومظالمه، عبر تحليل الآراء والأساطير والصور النمطية القارَّة التي تمثِّل عَرَضًا من أعراض هذه الأزمات وسببًا من أسباب ديمومتها.
* * *
[1] نسبةً إلى إريك أورباخ، صاحب كتاب المحاكاة الشهير.