أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > أدب > القصة و القصة القصيرة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 29/12/2008   #1
شب و شيخ الشباب المحارب العتيق
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ المحارب العتيق
المحارب العتيق is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
جرح الياسمين
مشاركات:
3,677

افتراضي قصة الأسورة ...


قصة الأسورة 1 (1) ... نجلاء 1985 .....ترويها لكم مايا


" في ذلك المساء . ركضت . وكانت تعرف أن موعدها هو الفجر . والرمل بارد تحت قدميها . وعلى يسارها البحر ، وعلى يمينها خيالات أحجار . لا قمر في السماء . وليس حولها غير ظلام وبرد وهواء . "

عندما نظرت من نافذة الطائرة إلى الفراغ تحتها ، ورأت اللون الأخضر يختفي ، واللون البني يزداد ، ورأت خط البحر وشريطا ضيقا أخضر على طوله ، والركاب يدخنون سيجارة أخيرة سريعة . علمت أنها وصلت . وصفعتها اللحظة لتوقظها . وأشعلت بسرعة سيجارة قبل الهبوط .
عادت .
العشرة أعوام .
و عادت .
نظرت حولها لتتذكر الأشياء حولها ، لتعثر على الأشياء التي تعرفها . تستنشق الهواء ، لتشم رائحة تعرفها . أرادت ، تمنت أن تتذكر ، أن تعثر على ما تركت ، وأن تشم رائحة تعرف .
تريد أن تساعد حواسها عقلها ليعرف أنه عاد .
هل حقا عادت ؟
هل حقا عادت ؟ هل احترقت الغربة إلى الأبد ؟
هناك لحظات في الحياة نمضي حياتنا خائفين منها ، وأحيانا ، وتحت هاجس ما ، لحظة تهور ، أو شجاعة ، حكمة ، أو حماقة ، نرمي أنفسنا في تلك اللحظة لنرتاح منها وترتاح منا ، لأننا كنا دائما نعرف أن هذه اللحظة ستأتي ، ولأننا مللنا الخوف .
لحظات كالموت ، الذي نقرر أن نرتم فيه ونضيع في الغيبوبة ، ونقطع شرايين يدنا لنموت . البعض يسميها انتحار .
عندما حملت جواز سفرها وحقائبها وقررت العودة إلى الأبد ، كانت تعيش إحدى تلك اللحظات ، كل من حولها اتفق على تسمية ذلك القرار انتحارا ، ولكن الجميع كانوا مخطئين لأن قرار العودة لو كان انتحارا فهي إذا الآن ميتة ، ولكنها لم تكن ميتة ، كانت حية ، حية وتشعر بالحر .
الناس حولها عادوا للون لم تره مند زمن . لون غريب . لون يشبه لون أدم الأرض . ويتحدثون العربية ، كلهم . للحظة شعرت أن عينها تحرقها وأن غشاء طبلها يقرع داخل أذنها وأنها تعاني من صداع كأنها استيقظت توا من الغيبوبة . أغمضت عينيها للحظة وغابت عن كل شئ ، لم تر خلال هذه اللحظة إلا وجه مايك يلمع بضوء برتقالي وسط الظلام . وعندما فتحت عينيها ، لم يكن مايك هناك ، بل كان الناس الحنطيون وحولها في الهواء تتراقص كلمات عربية تطن كسرب حمام ضائع . كل شئ يؤكد أنها لا تحلم ، ويؤكد أنها عادت . وأنها خائفة .
شعرت كأنها وسط الجامع الأموي ، قدميها على السجادة الحمراء ، وفوق رأسها ثريا ، وحولها مصلون يكبرون الله، وهي بينهم تصلي لله .
الجميع يتحرك . ورجل يتناول منها الحقيبة ليضعها على عربة حديدية ، وحقيبة أخرى ، وحقيبة أخرى . زحمة . والجميع يتحدث ويضحك . عندما رفع الحقيبة ، ارتفعت ذراعه فوق رأسها ، وشمت رائحة عرق نتنة تنبعث منه كأنه لم يستحم منذ سنة .

تذكرت عندما كانت شفتيها تقفز فوق جبين أبيها ووجنتيه وذقنه وشعره الرمادي . تقبله قبلات سريعة خفيفة تستمر لحظة . تذكرت عندما كان يتركها تلعب بشعيرات صدره ، وترغي الصابون على ذقنه ، وتعلق ملاقط الغسيل بشعر رأسه الناعم . تتذكره ببدلته السوداء ، يزداد طولا ، ورائحة عطره الذي يركبه له محل عطور في الشعلان ، ونظارته المصنوعة من عاج بلون السكر ، يضعها عندما يقرأ الجريدة ، ثم يخلع النظارة ، يرمي الجريدة ، يرشف رشفة قهوة ، يشرد عشر دقائق ، يسب مسبة قذرة ، ويخرج إلى دكانه .
ما زالت حتى الآن تتذكر ذلك المنظر المتكرر يوميا كلما اشترت جريدة ، ولكنها نست نهائيا رائحة العطر . تتذكره قويا مخرشا ، يعلق بك ويرفض أن يغادرك . ولكنه غادرها .
لا تستطيع أن تطلق على هذه الخيالات اسم ذاكرة ، أو على الأقل لا تستطيع أن تسميها ذاكرتها . كانت تلك اللحظات تمر في عقلها كأنها جسم أجنبي عنها زرع في خيالها ، كأنه فيلم سينما يتحث عن بطلة غيرها . أي شئ . أي شئ . تريد أن تجد شيئا واحدا عادت اليه .

الرجل الذي يجر عربتها ، وسيجارة معلقة بفمه . شعرت بقلبها يخفق ، وبعضلات عنقها تتقلص . أرادت أن تمد يدها وتسرق السيجارة من بين شفتيه وتسحب نفسا .
عندما أخبرتهم أنها عائدة ، ظنوا أنها عائدة لزيارة . اتصلت بأمها ." يا ماما ، على طول . خلص . على طول ." منذ أن أعلمتهم القرار ، عادت الرسائل تأتي إلى عنوان صندوق بريدها ، وفي كل الرسائل ، في مكان ما بين الكلمات ، على إحدى السطور ، تمر عبارة : أنت مجنونة .
مجنونة ؟ عاقلة ؟ لا يهم . المهم أنها أخيرا ورغم كل شئ حيث يجب أن تكون . أحيانا أشد حالات جنوننا وتطرفنا تحملنا لمكان حيث يجب أن نكون .

ذاكرة . عندما تمشي ممسكة بيد أبيها ، تنظر إلى فوق لتراه ، وترى شاربيه المدهونين بالبرلنتي ، ويمران قرب حمام نور الدين ، ويشتري لها ملبس وشوكولاته . هل كانت هي هذا الكائن الصغير ؟ يمشيان ، ويعلمها الإنكليزية ، وتسمع صوت صراخ باعة سوق " تفضلي " بينما تحاول أن تعلو بصوتها فوق الضجيج ليسمعها أباها تغني الأبجدية الإنكليزية . كان يحبها أكثر من الجميع . يدللها أكثر من الجميع ، أكثر حتى من محمد . يعتبرها الأذكى ، والأحلى .
تردد اسم دمشق كثيرا هذا الأسبوع . بينما كانت تعد حقائبها ، وتحاول اختيار ماذا ستأخذ وماذا سترمي ، وماذا ستعطي ، وتبكي ، كان الإعلام يتحدث عن دمشق . ليس عن الجامع الأموي ، وبيت جدها في القنوات ، وعن رائحة الغار في حمام السوق . بل كانوا يتحدثون عن الشيراتون وعن الرهائن الأمريكين الذين نقلهم الصليب الأحمر من بيروت إلى دمشق ومنها إلى ألمانيا الغربية . مر عليهم سبعة عشر يوما في الرهن . أما هي ، فقد مر عليها عشر سنين . عشر سنين جعلتها تنسى عالمها خارج الاحتجاز .
تتذكر عبد الحليم : غنيللي لحن الوفا .

الأرض قذرة، الزوايا قذرة ، أعقاب سجائر ، تراب على الجدران ، أحد النيونات معطلة تاركا بقعة أظلم مما حولها . تذكرت زياراتها إلى لندن ، تستلقي على العشب المبلول في " الهايد بارك " وتشعر بالندى يدغدغها . تشم رائحة التراب والماء . تغمض عينيها ، ثم تفتحمها لترى السماء وسحابات بيضاء وشمسا سخيفة وطائرا أبلها يبحث عن من يطعمه . وتتذكر دمشق ، كم كانت جميلة ، وغداء يوم الجمعة في بلودان ، وشربة ماء من نبع بقين . وتتذكر يوم تشاجرت أمها مع أبيها بسبب تبذيره وجيبه المثقوب الذي تسقط منه النقود ، يومها حاول أبوها تجاهل الصراخ والمحاضرات ومحاولات إعلان الطوارئ ، أمسك نظارته العاجية متظاهرا بالصمم ، وضعها وفتح الجريدة ، ولكن أمها لم ترض ألا يسمع . نزعت النظارة من فوق أنفه وكسرتها إلى قطعتين ثم رمتها بين قدميه . أصلح يومها نظارته بجمع القطعتين بشريط لاصق طبي بني اللون ، وما زالت تتذكر منظر النظارة المجبورة إلى الأبد كمنظر شحاذ يدعي الإعاقة .

اعتاد كاحلها أن يؤلمها كلما مشت على الثلج . يؤلمها ويذكرها كيف التوى . كانت يدها البيضاء تمسك ذراع أبيها ، ولم تنتبه لحافة الرصيف المكسورة ، والتوت قدمها . وهو كاحلها يؤلمها الآن ، رغم كل حر الصيف والتكييف الذي لا يعمل . يؤلمها . اعتادا أن يخرجا إلى شوارع دمشق عند الغروب ، ويمشيان . وفي أيام الصيف يشتري لها عصير برتقال من محل أبو عصام ، ويخرج من جيبه كيس بلاستيكي فيه خبز مقطع ويناولها قطع الخبز لترميها للستيتيات .و يعلمها عن الحب ، ويحكي لها عن أحلى أخبار الحب . ما أحلى منظر عيني أبيها العسليتين عندما تلمعان لما يذكر قيس بن الملوح ، ويحكي لها عن قصصه وأشعاره ، يحكي لها كيف كان أول من استخدم كلمة "حب" بين العرب لأنه أراد كلمة جديدة يخبر بها ليلى عما يشعر به ، ذلك الشعور الذي لم يعرفه أحد قبله .
وفي الشتاء ، كانا يمشيان قبل الغروب ، ويردد دائما " مشاوير المجانين في كوانين " ، وتلتصق بمعطفه الجوخ الأسود لتدفأ . تمسك بذراعه ، ويشتري ورقة يانصيب تخسر دائما . ويحدثها عن الحب العذري ، عن ذلك الذي هام في البرية والصحراء ، يتخيل حبيبته التي لم يلمس ويكتب لها الأشعار . يحدثها كيف تعلق بأستار الكعبة ودعى الله ( اللهم زدني حبا لليلى ، وبها كلفا .و لا تنسيني ذكرها أبدا ، ولا تشغلني عنها ) وكيف يومها استرحم أبوه الناس حتى لا يقتلوه ، ودمه يسيل ، وهو يردد ( ها أنت سمعت ها أنت رأيت) . كانت تدفن وجهها بذراعه لتدفء أرنبة أنفها المتجمدة ، بينما هو يخبرها عن قصة موت المجنون الذي اختفى بينما كان يلحق غزالة ، ليجدوا جثته بعد أيام ملقاة فوق حجارة . كل مرة يموت فيها ابن الملوح ، كانا يتوقفان عن السير ، ويتنهد أبوها كأنه يحترق شوقا ، ثم يسأل : يا ترى ، ما كان آخر بيت شعر قاله ؟
و قبل الوصول إلى البيت ، كان يخبرها عن نساء وفتيات أحياء العرب وكيف خرجن حاسرات عن رؤوسهن ، نادبات . وكيف شارك بعزائه بنو العامر ، قبيلة ليلى .

علمها أبوها أننا حين نصلي ينظر الله إلينا ليعرف كم في قلوبنا حب . وأن الله يريدنا أن نملأ هذه العضلة بالحب كما هو يملأها لنا بالدم .
و كانت وهي تصلي في تلك الأيام ، تحاول أن تستذكر كل ما تعرفه من الحب قبل أن تصلي . تتذكر أمها وأخاها وأخواتها والجيران وأم فراس المستخدمة في مدرستها ، وكبٌارة أنسة اللغة العربية والستيتية التي تعشش على حافة نافذتها وابن عم أبيها الذي استشهد بينما كان يحارب الإسرائيليين . وعندما تصل ذاكرتها لاسرائيل ، كانت تفقد كل الحب .
انتظرت من على شباك غرفتها أن يصيب الجنون ابن الجيران ، أو ذلك الذي يقود السيارة الأوبل ويمر قرب بلكونهم عند المغرب ليراها قبل أن يودع الشمس . آمنت في تلك الأيام أن الحب العظيم هو حب المجانين ، هو حب يجعلك تسافر إلى الشمس دون أن تحترق ، هو حب يجعل الحبيب أغلى منك والورود أحلى ، هو حب يجعلك تتفاهم مع العصافير ويجعلك تبكي عندما تكون سعيدا وتضحك وأنت حزين . وربما تجرأت أحيانا لتكسر عذرية الحب في خيالها ، فتخيلت أنها قبلت رشدي أباظة أو عانقت كمال الشناوي أو لعبت أصابعها بشعر عمر الشريف .
و اكتشفت الخديعة والكذبة العظيمة . اكتشفت ذلك كأنها بنت أربع سنوات رموها في البحر عارية لتسبح وحدها . اكتشفت ما صدقت يوم رأت أباها جالسا على كرسي الخيزران قرب الباب ، جسده النحيل مطوي ، رأسه فوق فخذيه ، ويرجف ....لا يبكي ، ولكن يرجف ، كجسد عجل لحظة يقطع عنقه . وأختها على السرير ، شاحبة ، لونها الأبيض الجميل كأميرة عثمانية أصبح لونا أبيضا مخيفا ، لون سيسكن أحلامها وكوابيسها طويلا . وعلى وجه أختها دمعات حمقاوات سخيفات تافهات ، أو لعلهن كن حبات عرق ولكن الذاكرة خدعتها . تتذكر أنه كان فجرا نيساني ، وكل شئ سعيد ، وبيض الدوري فقس والقطط وضعت . وتتذكر الأصوات ، همسات ، صراخ عال ، صراخ خافت ، همسات ، نحيب ، صوت الآذان ، زقزقة عصافير ، ستيتية تقرع زجاج النافذة بمنقارها ، الأطفال في طريقهم إلى مدارسهم يضحكون . أصوات كأوكسترا تعزف سمفونية سوريالية مشوهة .
في ذلك الصباح ، وخلال سنوات بعده أستطاعت أن تستوعب ، شئ ما في عقلها قرر أن يفلتر أفكارها وأحلامها . وهكذا اكتشفت أن قيسا لم يكن أكثر من مجنون يعاني من اختلال مواد كيميائية في عقله . وأن الحب ليس أكثر من مقدمة طويلة للجنس ، الجنس الذي يرجع الإنسان لدقائق إلى أصله الحيواني . واكتشفت أن الانسان العربي يعيش مسكونا بأشباح ماض وبخيالات غريبة . وقررت أن تحقق معجزة ، وأن تكون عظيمة ورائعة ، أن تركض وراء أهدافها محطمة كل الأصنام والمسلمات في طريقها وأن تتوقف عن تصديق الحب .
استمرت تصلي لله الفجر والعشاء ، وعندما تنهي الصلاة ، تفتح يديها ، وتطلب من الله أن يمدها بالقوة حتى لا تكون مثلهم .
عندما قررت أن تدرس الطب جن جنون أمها ، وابتسم أبوها ابتسامة عريضة عريضة ، وقبلها بين عينيها قبلة طويلة حلوة . وأهداها في أول أيام الجامعة ، بعد أن عادت إلى البيت من المشرحة ، سماعة طبية رمادية اللون . وبتلك السماعة سمعت دقات قلبه أول مرة ، تضعها على صدره العجوز التعب ، صدره الذي أحرقه ال"بايب" ، وتسمع قلبه يدق....دقة...دقة....و في كل دقة تسمع قصة ، وتحبه أكثر . ويسألها : هل تسمعيه ينادي اسمك ؟ نجلا .
الله ، وأبوها ، وأحيانا أمها ، كانوا الأشياء الوحيدة التي لم تشف من حبها لها ، رغم تعلمها لتشريح الدماغ والقلب والشرايين .

ظنت أنها ستعيش ساعية وراء النجاح ، وأنها ستسكن الواقع ، وستحطم الشرق الحالم منذ أيام عروة بن الورد تحت قدمها ، وأنها ستودع الانكسارات والهزائم إلى الأبد .......الأيام علمتها أن الشرق وانكساراته وهزائمه يعيشون في بقعة أعمق من عقلها ، انهم يعيشون في جيناتها . ما زالت حتى الآن ، ولم تفارقها الانكسارات ، وأحزان الشرق الخيالي الجميل .
يفتشون الحقائب . ينظرون إليها كمتهمة ، ويهمس في أذنها عجوز : ادفعي يا بنتي . وتدفع . وتتحول معاملتهم لها إلى معاملة الأميرات . كان المبلغ بسيطا ، ثمن كروز دخان ، وكان من يفتش الحقيبة انسان مواطن لا يريد إلا تربية أولاده وتعليمهم وتخدير لسانه بسجائر يدخنها .
الجثة على لوح حديدي في المشرحة . ورائحة واخزة تخرش أنفها . وصوت الطلاب وصوت الأستاذ وهمسات قرف وهمسات سخرية من القرفانين . نظرت إلى بطن الجثة المفتوح ، وإلى فخذها ، وحبل عصب يلتقطه ملقط الأستاذ ، ووجه الجثة ما زال سليما لم يلمسه المشرط بعد ، لم يفتت لحمه كلحم نعجة مضغه ابن آوى . وعينا الجثة مغلقتان بهدوء ، راقبت العينين طول نصف ساعة ، تتخيل فوق الأجفان المغلقة زهرتي نرجس ، تريد أن تقبلها وتتركها وحدها في سكون . الذكريات لم تكن تفارقها .

الفهيم بيريح

لك تاري الحمار لو شو ماسلموه بيصدق حالو وبدك تناديلو سيد حمار
  رد مع اقتباس
قديم 29/12/2008   #2
شب و شيخ الشباب المحارب العتيق
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ المحارب العتيق
المحارب العتيق is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
جرح الياسمين
مشاركات:
3,677

افتراضي قصة الأسورة 2


قصة الأسورة 2 .. أم محمد ( فريال ) 1986.....ترويها لكم مايا


" في ذلك المساء تذكرت السوق وفي السوق كان هناك زحام وضجيج وبشر وقطيع خراف .
و يومها اشتروها لقصر قائد الجيش . وكم حمدت الإله حداد يومها . "

صوت الراديو من غرفة نوم جيرانهم " بيت بوظو " ........عل العين موليتين ....و ستعش مولية .
غرفة نومها ....ذلك الظلام الذي يهدده ضوء الشمس المخترق للأباجور الأخضر المكسور المغلق وراء باب البلكون المغلق . وستارة شبه شفافة بلون بني .......ذلك الظلام الذي لون كل شئ في الغرفة بلون بني ...لون حتى الهواء .....لونها هي ....جالسة على فراشها ، في يدها مسبحة حباتها دقيقة خشبية ، تسعة وتسعين حبة ....و بين يديها قرآنها " يا أيها الذين آمنوا " ....و ذبابة زرقاء تطن وتطن حولها منفوخة كأن فيها ألف بيضة .....و صوت سميرة توفيق....و تحاول ألا تسمع وأن تقرأ .
التراب على السقف . منذ متى ؟
ألا تكفي كل تلك الدموع يا الله .
منديلها الأبيض ....تفركه بين أصابعها .
البارحة حلمت...حلمت أنها في تجلس مقرفصة وسط أرض ديار بيت أهلها . وسمعت في حلمها صوت الماء في البحرة ......و بطيخة في وسط البحرة ، وعندما نظرت حولها في الحلم رأت شجرة مشمش وأكدنيا ونارنج ، وفي قمة شجرة النارنج كان هناك نارنجة وحيدة صفراء مجعدة تتدلى من غصن . حلمت أنها تتذوق الرز بحليب ، وتشم رائحة الليمون ، وأن سطح الماء في البحرة كان مغطى بالياسمين وبضع من أوراق شجرة الليمون وفلة . حلمت أنها تتأمل قنطرة الليوان ، والزخارف على حجرها .....الكثير من المخمسات . وداخل الليوان ، على ديوان مغطى بقماشة دماسكو خضراء ، جلس أبوها وأمها يتأملانها مقرفصة وسط أرض الديار .
في الحلم ، كان فوقها سماء ، وكانت تحاول أن تتبرز ، وكانت تضغط وتضغط . تحبس نفسها ثم تضغط أقوى . وألم فظيع ، كأن ألف شئ داخلها يتمزق ، ألم كأنه ألمها يوم ولدت نجلاء ( الولادة الأقسى ) . وتضغط .
و في الحلم رأتها تقترب منها . عارية كما رأتها ذلك اليوم . متألمة . بقايا . وفي الحلم عانقتها ، وجلسا القرفصاء معا ، وبكتا . ثم استيقظت على صوت آذان الصبح .
ما زال صوت سميرة توفيق. كانت تقرأ الآيات وتشرد ، ويحملها الحزن .
" صدق الله العظيم "
قامت من على سريرها . ثوب نومها الطويل العريض السماوي ، كلون عينيها . فتحت خزانتها . ومن داخل درج في الخزانة أخرجت صندوق خشب ، لونه بين الأسود والبني ، على سطحه وردة رسمت بقطع صدف فضية ينعكس عليها الضوء ليعطيها طيف عشرة ألوان . فتحت الصندوق ، ومدت أصابعها داخله . فيه أشياء وأشياء . قصة قصيرة كتبتها يوما نجلاء ، وقصيدة شعر كتبتها نيرمين وآخرى كتبتها نهاد ، خصلة شعر أشقر من خصل شعر ناهد ، وصور وصور وصور ، وقبعة قماشية بيضاء مخرمة ، لها رائحة زيت قشر البرتقال ، أعتادت أن تضعها فوق رأس محمد قبل أن يذهب مع أبيه إلى الجامع . قبلت القبعة .
منذ متى كبر رأسه ؟ منذ متى صغرت القبعة ؟
البارحة ، تركت أوراق الملفوف المسلوقة الصفراء ، وصحن اللحم النئ والرز المجهز لحشو الملفوف . تركت أصواتهن يتناقشن ، تركت خطوط التلفون التي لا " تعلق " ، تركت التلفزيون والمذيع الذي لا يذيع الخبر . ودخلت غرفتها . ترتدي نفس ثوب النوم السماوي ، وفي يدها المنديل الأبيض المعطر بزيت الورد . أغلقت باب حجرتها . جلست على حافة سريرها . لم تكن تريد البكاء . ولكنها بكت ، وصوت التلفزيون في الخارج "ما يطلبه المشاهدون". وهي غاضبة من الله ، ولا تستطيع تحمل المزيد ، تريد أن يعود محمد .

قبة سماوية فوق أرض ديار بيت أهلها في القنوات . القمر في ليال باردة دون سحب . وصباحات الثلج . الأولى دم ، والثانية سم ، والثالثة " كول ولا تهتم " ، وتركض ، وتتذوق الثلج من فوق حافة البحرة ، وتتزحلق وتقع ، وأمها تصرخ وتأمرها أن تعود إلى القاعة ، وكأس من عصير التوت الشامي ، تتركه على الأرض ، وتراقب حبات الثلج الناعمة تسقط حوله وفيه ، وتنتظر أن يملأه الثلج قبل أن تأكله . وعصفور دوري بردان يختبئ في شجرة الأكدنيا ، وقطهم الأشقر يموء ، وأمها تحلف أيمان أنها لن تدعه يدخل .

يزداد الحزن أحيانا ، فيتحول كل نفس من أنفاسنا لبكاء . كل نفس يصبح شهقة رعب من شئ أقسى . وتتحمل . وتتساءل ، ما الحكمة ؟
في طفولتها ، ظنت أن كل مصائبها عقاب ، وأن كل شئ يحدث عدل من الله . وأن كل الأشياء مفهومة ومنطقية .
ألف مرة صرخت بها أمها األا تلعب بزجاجة ماء الزهر .........ألف مرة صفعت مؤخرتها "شحاطة" أمها......ألف ألف صرخة حذرتها من شرب ماء الزهر ......هذا سم ، إن شربته ستموتي .
و في تلك الليلة .
أبوها وزوج خالتها . وأرجيلة ، عليها كتلة من تبغ عجمي أصفر مسود ، وفوق الكتلة جمرة تلمع بلون أحمر يشع مع لون المغرب مع كل نفس يسحبه أبوها . بنات خالتها سبعة ، كلهن يرتدين نفس الفستان الأحمر، نفس التفصيلة ، نفس القماش ، ويختلف المقاس باختلاف العمر والحجم . كلهن يلدغن بالراء . وفي المطبخ لا تسمع من كلامهن إلا غين ، وتسمع صوت معلقة خشب تحرك الكراوية التي تغلي في قدر النحاس . وأخوها توفيق بقمطته البيضاء ، وعينيه المغمضتين ، ويديه المقبوضتين ، والجميع يقبل رأسه وقدمه ويتلو في أذنه آية .
وزجاجة ماء الزهر في " النملية " تمد لسانها كالشياطين .
عمرها خمسة سنوات . وفيها كل غضب وغيرة الخمس سنوات . غضب وغيرة شيطان لم يعرف بعد الخوف .
و توفيق وحده صغيرا فوق فراش أبويها . أصغر من حجم قطة . وهي صغيرة تجلس قربه ، في يدها ملعقة صغيرة وفنجان قهوة كحلي مملوء بماء الزهر . وتسقيه ماء الزهر بالملعقة .
كان يبصقه بالبداية ، ثم مل البصق ، وأخذ ماء الزهر يبلل لسانه وحلقه ومريءه ومعدته .
و بعد أسبوع ، أصابته حمى . ومات .
ظلت سنوات تظن أنها قتلت توفيق ، لسنوات كرهت أمها وماء الزهر . لسنوات سكنتها صورة أمها باللون الأسود ، وشفاهه الزرقاء .....و عقلها ، في ذلك الركن البعيد الأسود من عقلها ، ذلك الركن الذي عادة لا يدري عنه أحد . في ذلك الركن كان يسكن سرها وألم في قلبها .
عشرة مرات شربت فنجانا من ماء الزهر لتموت مثله ، ولكنها لم تمت . طعمه المر ، ولا تموت . كل ما كانت تشعر به هو ألم في صدرها ، ورائحة حقل ورد لا تغادر أنفها ، ولا تموت .
عندما أخبرتها يوما أمها بينما كانت تعلمها طبخ الرز بحليب ، وبكل بساطة ، أن ماء الزهر لا يسمم . تحول سر الإثم داخلها إلى شئ غير ذي معنى . وأصبحت الحمى التي أصابت أخاها مجرد حمى . وأصبحت مصائبها التي كانت تظنها لعنة من الله ، لغزا ، حكمة من الله ، لا تفهمها . وما زالت لا تفهمها .

صباح الجمعة . وخارج غرفتها صوت حركة نجلاء على البلكون .
سنة قد مرت ، وهي ما زلت تتحرك .
برد آذار لا يهمها ، المهم أن تعيش الياسمينة .
لم ترها تبكي منذ وصلت ، كأن لا وقت لديها تضيعه بالبكاء . في أيام الجمعة ، تربط شعرها بمطاطة ، وترمم ذاكرتها. كانت تريد أن يعود البيت إلى نفس الصورة التي كان عليها قبل عشرة أعوام ، الصورة التي كان عليها قبل أن تسافر... ..دهنت الحيطان لتعود بيضاء ، وأعادت تعليق لوحة آية الكرسي فوق الديوان الكبير في الصالون . وخلعت أبواب خزن المطبخ الخشبية ، وأعادت تركيب أبوابا حديدية مخرمة لها نفس شكل ولون الأبواب القديمة . أعادت وضع الفرشة القديمة فوق سريرها . وفعلت الكثير لتعيد الحياة إلى الياسمينة ، غيرت التربة ، أضافت سماد ، حملتها إلى داخل البيت في الليالي الباردة ، قرأت كتبا علمية عن النباتات ، لتتعلم علميا كيف تعود الياسمينة لتعيش .

كان عمرها سبعة عشر .
أسابيع طويلة مرت وهي تشعر بهذه الغصة في قلبها قبل أن تقرر أمها أن تأخذها إلى العطار.
كان هناك مطر . تمشي مع أمها في سوق الحميدية . وصوت حبات المطر فوق السقف كصوت عفاريت تطرق وتطرق . ومشتا . دخلتا إلى دكان أقمشة ريثما يتوقف ويخف المطر .قماش برتقالي ، وقماش سماوي ، وأمها بملاءتها السوداء ، صارمة كأنها تحاول اختيار قدرها وليس قطعة قماش .
و توقف المطر .
تتذكر رائحة التوابل ، ربما ألف نوع وأكثر ، يمتزجون في رائحة واحدة . ثم وصلتا إلى دكانه .
أبوه كالعفريت ، طربوشه ، شرواله ، وذقنه البيضاء ، وحدبته . أما هو ، طويل جدا ، نحيف جدا ، شاربين بالكاد يرسمان خطا فوق شفتيه ، وينظر إليها ، وهي تبتسم حتى تكاد تضحك .
لف لهما أربعة أنواع أعشاب ونوع من الزهر لتغليهم وتشرب مغليهم كل يوم على الريق . والشاب النحيف يبتسم لها . وهي احبته . وابتعدتا . تأكل حبة مشمش مجففة ، وطعم حلو حامض واخز يصدم لسانها بلذة . وتراه يلحقهما، وتلتفت ، وتبتسم له ، وتنظر إلى شاربيه .
كل صباح شربت مغلي الأعشاب ، على الريق ، وطعمه مر ، ورائحته كرائحة فأر ميت . وبعد أسبوع راح الألم ، وبعد عشرة أيام زارتهم أمه وأخته لتخطبانها .
ليلة العرس .....يوم ضمها ، وشعر عنقها بقلبه ينبض ، وخلع ملابسه ، وعظامه بارزة لا يغطيها لحم ، وتقرص خده ، وتسحب شعرة من شاربه ، وتقبل فروة رأسه ، و" الشطي مطي " يمتط بين أسنانها وأسنانه ، ورأسه في حضنها ، وتضحك سعيدة ......و تحبه وتحبه وتحبه . منذ تلك الليلة عرفت أنه سيكون أكثر من زوج ، عرفت أنه سيكون ابنها . كانت تحبه كأنها ولدته .

مات دون أن يخبرها سر تركيبة أعشاب غصة القلب . والغصة عادت لقلبها منذ مات ، ولا تعرف لها دواء .
تشعر بقلبها يعتصر لدقائق ، وتتذكره .

الحب ؟
ذلك الشئ الذي يستعمرنا ويحولنا . ذلك الشئ الذي يخلق لنا مهمة مقدسة نموت لأجلها . تلك الكذبة .
يوم الجلاء . الكل سعيد ، وهما ، وبعد ثلاثة أشهر من زواجهما ما زال الجميع يناديها بالعروس ، والعدس يغلي.....كانت أول مرة تطبخ له " ستي زبقي " ....و عاد ، وقبلها ، سعيد ككل الناس ، وخارج باب البيت تسمع هتاف وأحيانا رصاصة . يحمل كيس ، وفي داخل الكيس زجاجة ، وفي الزجاجة سائل شفاف . خمر . وقبلها ، وجلس وأكل وشرب ، ورائحة اليانسون تقتلها ، تحاول ألا تنظر إليه وألا تنظر إلى الكأس والزجاجة . وشرب مرة أخرى ، وثالثة ورابعة . وعندما سكر قام وقبلها ، أحست بالحرام يقتحم جسمها ، ولكنها عادت لتحبه كولدها عندما وضع رأسه على حجرها وبكى .
و مع الأيام اعتادت كلما رأته يشرب أن تغلق عليه الباب ، وأن تجلس قريبة منه منتظرة دموعه ، منتظرة أن تحبه أكثر .
أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمل ولادة خمسة أولاد ؟ أكان الحب ذلك الذي جعلها تتحمله وهو يمسك كتابا ويخبرها عن التاريخ وعلي بك الكبير وقناة السويس ودلسيبس والأمة العربية ، ويقرأ لها أشعار المتنبي ، وامرؤ القيس ، أبي سلمى ، ومجنون ليلى ، ويتحدث عن السياسة ، والفساد . تتذكره عندما حبس نفسه في البيت رافضا الخروج خارجه حتى لا يرتدي " البرنيطة " عوضا عن طربوشه ، كما أمر الحناوي . ثم عندما كان يعود إليها ليلا ويهمس في أذنها عن أخبار الاعتقالات ، وماذا يحدث في المعتقلات ، وهي تخاف .
الوحدة . الناس تتحدث . جمال عبد الناصر . والمطر انقطع عن البلد . وولدت محمد . بعد خمس بنات .

تريد أن تقوم من عن سريرها . تريد أن تتحرك ركبتيها دون ألم . تريد أن تخرس الموسيقى الأجنبية التي تأتي من نافذتها . تريد . تريد . تريد . تريد أن يتوقف نزيف البكاء داخلها وأن يطير الحزن وأن تنسى .
تنسى نهلة . تنسى أبا عبد الكريم . تنسى نجلا . تنسى قلقها البارحة .
تنسى صورته قبل أن يموت ، يجلس بين يديها كما جلس دائما . زوجها وحبيبها وصغيرها . عيناه ....نظرة عجوز ونظرة طفل . ألم . وذراعه مقطوعة . وبناته يمسحون جسده بزيت الزيتون . ثم يبكي . أخبرها أنه لا يخاف الموت ، ولكنه لا يعرف كيف يعيش بعيدا عنها .
نظرت إلى صورته . باللون الأبيض والأسود . يبتسم . وقبلته .
شمت المنديل في يدها . منديلها الأبيض .
كانت لا تستطيع تغير خروق ابنتها دون المنديل المبلل برائحة الورد فوق أنفها . ومع الأيام أدمنت رائحة الورد . وأدمنت حمل المنديل .
لقد مسحت جسدها في ذلك اليوم بمنديل أبيض كهذا المنديل .
عندما تقدم لهم ليخطب نهلة ، صرخت عاليا " مستحيل " ، ثم تتذكر ابنتها تلبس الثوب الأبيض .عروس . شعرها بني كقطة شامية . وعلى خدها خال . وعلى شفاهها حمرة . وبشرتها بيضاء بيضاء بيضاء ، حتى تكاد أن تكون شفافة ، وتكاد أن ترى من خلالها حبا . وهو يجلس إلى جوارها . عريسا . وفارق عشرين سنة . والبشرة البيضاء . وخداه الحمراوان . وعيناه الزرقاوتان . ويداه العريضتان ، وتفوح من يديه رائحة موت ، ورائحة جلد السياط التي هوت على أجساد الناس . رائحة الشعر الذي حرقته تيارات الكهرباء . رائحة الاسمنت الذي أمر بصبه فوق مصبات وضع داخلها شباب أكبرهم بالعشرين . كيف كان لها ألا تبكي ؟ كيف لا تبكي وهي تجلس وتنظر إلى ابنتها مستعدة أن تغتصب .
أيام الوحدة انحبس المطر ، ثم عاد المطر . أيام الوحدة سمعت به " مدحت رسول " وبعد الوحدة تزوج ابنتها . أمثاله تراهم دائما ، لأن الجميع يحتاج خدماتهم . وهو كان جيدا .

ذلك الحلم . ألف مرة حلمت أنها في غرفة دون أثاث ، ولمبة حمراء معلقة بسلك عاري تتدلى من السقف ، ورغم اللمبة كان هناك ظلام ، ورجال كثيرون حولها ، عشرة وأكثر من عشرة . يرتدون بدلات رمادية ، وفوق شفاههم شوارب غليظة ، وفي أقدامهم شحاطات بلاستيكية رمادية ، وأقدامهم غليظة ، وفي أيديهم أحزمة . وهذه الأحزمة تنهال عليها ، وتستيقظ ، ولثوان تبقى في عقلها ذاكرة ألم اللحم المتفزر .
سكتت الموسيقى . آذان الظهر . يوم الجمعة .
الله أكبر ...... الله أكبر
فردت ركبتيها ووقفت . وصوت طقة خافت أتى من عظامها . وصداع عنيف في رأسها.
خرجت إلى غرفة الجلوس ومشت إلى غرفته . وألم وصداع . بيتها . تتذكر حماتها التي " بركت " لخمس سنوات ، وسلفها الذي سرق ورث زوجها عن أبيه .و البارحة . ومونتي كارلو تذيع الخبر . ثم يسمعون الخبر بال ب ب س . أما القناة السورية فكانت تعرض ماريا ديب تقرأ الرسائل والاهداءات .
إنفجار....باص...سيارة.....شاحنة ....براد....ساحة العباسيين.....بناء الروس . جميع البنات بخير . ولكن أين محمد ؟
و مضى الليل . أين محمد ؟ وقررت أن تشرب سم وتموت إن مات محمد .
إخوان.....عراقيون....أردنيون... ..لبنانيون....لا يهم . قررت أن تموت لو مات محمد .
البارحة .في غرفتها جلست وحدها ، تحادث الله ، وكالعادة لا يجيبها . في غرفتها جلست . تبكي . تتخيل دخانا ودما ونساء يصرخن ورجال شرطة وجيش ونعالا سوداء واسفلتا وأشلاء . يدا . ساقا . وأنينا . وتتخيل جثة ابنها وسط الأنين . والغصة في قلبها تمزقها . لا تريد أن تتخيل . وصداع .

الضوء يدخل حجر البيت . الضوء يدخل مرة أخرى بعد ليلة صعبة . الضوء دخل كل مرة .
عندما ماتت نهلة ، فتحت صندوق الخشب وحرقت كل شئ فيه يذكرها بها . حرقت خصلة شعرها وحرقت صورها . حرقت كل شئ كان يخصها . حرقت عودها ، والأغاني التي كانت تكتب . حرقت علبة دخانها المخملية الزهرية . وضعت كل شئ بطنجرة النحاس الكبيرة ، وصبت فوقه قليلا من زيت الكاز . ووقفت تنظر إلى النار . حمراء . ودخان أسود . أرادت أن تنسى . تمنت لو تحرق مدحت رسول . تمنت لو ماتت جوليا ومات كنان . تمنت لو تموت هي حتى يتوقف الألم . والدخان يحرق عينيها . وتمنت أن تنسى .
و دخل الضوء كل صباح . ومر كثير من الصباحات . ودخل كثير من الضوء . ولم تنس .
أبو عبد الكريم . والقلق . وزوجها . والموت . ألف رمح . وعلى جسدها آثار الطعن . إبر الأنسولين خلفت جلدا قاسيا على ذراعها اليمنى وذراعها اليسرى وفوق بطنها . وكل شئ حولها يجعلها تتذكر . ونجلاء مهووسة باسترجاع الذاكرة .
كيف نتكلم مع الله ؟ كيف نقضي ساعات نتكلم مع شئ نؤمن بوجوده دون أن نراه ؟ كيف نصدق أنه سيخلصنا من عذابنا رغم أنه لم يخلصنا يوما ؟ كيف نحبه كل هذا الحب رغم كل القسوة في عمرنا ، ورغم كل الحزن ، ورغم كل الحقد والغضب الساكن فينا . معجزة الله الكبرى أننا ما زلنا مؤمنين . ونحبه . كثيرا .
أحيانا تقف قليلا ، تحاول أن تتذكر . ألم الولادة كان حلوا . ولكن ألم الأولاد بعد الولادة مرا مرا .

فتحت باب غرفته . ورائحة كريهة . رائحة دخان ، ورائحة واخزة كالقئ . نائم فوق سريره ، فوق الشرشف الكحلي. رأسه يتدلى معلقا . ظهره عار وأخمص قدميه سوداوان ، وقرب رأسه باكيت إيبلا . وعلى الأرض ، فوق السجادة البيج ، أعقاب سجائر .
دخلت الغرفة والمنديل فوق أنفها . دخلتها بحزم وهدوء كما ضوء الشمس . شدت اللحاف من تحت ساقيه وغطته . أعادت رأسه إلى فوق الوسادة . وحملت "سطلا " سماويا امتلأ ربعه بقئ بني فيه قطع بندورة وقطع لحم مشوي أسود .
عاد البارحة الساعة الرابعة صباحا سكرانا . وكانت سعيدة جدا لأنه عاد .
قبلته . قبلته . قبلته . لأنه عاد ولم يمت .
الضجيج في الخارج . صوت "طرطيرة" وصوت باص وصوت أطفال يلعبون كرة القدم وجارة تصرخ . مشت تحمل السطل لترمي القئ ، والمنديل يضغط على أنفها وتشم رائحة الورد .
تريد أن تتوضأ وتصلي وتشكر الله وتناجيه ، فقد اشتاقت .
قال لها يوما " أنت أقوى من حبي . قوتك تمنعني أن أحبك أكثر . ولكن قوتك هي من تجعلنا وتجعلني أستمر "
وقع السطل من يدها . ارتخت ساقها اليمنى ، ووقعت .
كان صوت ارتطام رأسها أعلى من صرخة ألمها . وصوت استغاثتها مبحوحا أجشا خافتا . مجرد صوت . لم يستطع لسانها أن يشكل منه كلمة .
و أصابعها ما زالت تقبض على المنديل . والقئ بلل البلاط . ورأسها فوق البلاط . ورائحة القئ في أنفها وطعمه في حلقها . وفوق رأسها إيشارب أبيض ، وانسلت خارجه خصلة شعر بيضاء نسيت أن تلمسها الصبغة . وطنين في أذنيها . وصوت أولاد الحارة يلعبون كرة القدم . وصوت محمد يقفز خارج سريره ، وخطواته الثقيلة ، ويصرخ . ثم حملها ، وارتفعت كريشة . وسقط منها المنديل .
قال لها مليون مرة أنه يحبها . ولكنها لم تخبره ولا مرة كم تحبه . مات دون أن يعرف كم تحبه . مات دون أن يعرف أنها أحبته وهو سكران . أحبته وهو مريض . أحبته وهو يموت . أحبته قويا . أحبته ضعيفا . أحبته رغم خيانته لها . أحبته يوم هجرته عشيقته فعاد إلى حضنها ليبكي .

_____________________

" في الليل . في قصر القائد . كان هناك دائما شعلات نار معلقة على جدران الحجر . وكان هناك دائما نور . وكان هناك دائما عسكر ونساء . وفي قصر القائد كانوا في كل يوم يفرحون لولادة ويحزنون لوفاة . "

يتبع
  رد مع اقتباس
قديم 29/12/2008   #3
شب و شيخ الشباب المحارب العتيق
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ المحارب العتيق
المحارب العتيق is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
جرح الياسمين
مشاركات:
3,677

افتراضي قصة الأسورة 3


قصة الأسورة 3 .. جوليا 1987....ترويها لكم مايا...

ظلام....ظلام......أسود.....أسود
هل جربت تعريف اللون الأسود ؟
هو لون يعمينا . لون يأكلنا . لون يأكل باقي الألوان .

صوت ماء ينسل من الحنفية . نقطة . نقطة . صوت خالها يكبٌر . الماء يجري من الحنفية . أعوذ بالله من الخبث و الخبائث .صوت تمخط . ماء يجري . ثم يتوقف صوت جريان الماء . و تعود النقط . نقطة . نقطة .
صوت الصباح . حيث كل الأصوات هادئة . صوت عجلتي عربة زبال . و صوت نسمة هواء تدخل من نافذة نصف مفتوحة . و رائحة سروة . و رائحة سحاب آخر الصيف و رطوبة أول النهار . و بعد آذان الفجر ستسمعهم يذهبون إلى الجامع ، بأعداد أكثر من أعداد الشتاء . و بعد الصلاة سيبدأ الصف يتشكل أمام "كولبة" الخبز . و أصوات المصطفين . و أصوات خطوات شحاطاتهم فوق الدرج الاسفلتي . و صوت تثائبهم . و صوت سلامهم . و صوت معركة صغيرة بين أحدهم و أحدهم . ثم رائحة خبز .
ظلام . أسود .
تنظر .
سيحبك ناس كثيرون . و ماذا أخبرتها أيضا ؟ البصارة الحمقاء .
للسعادة صوت . و لها رائحة . و ككل صباح تستلقي على سريرها . و تحاول أن تدوخ في غيبوبة . و يسترجع عقلها
" صوت عود ....ثم أم كلثوم
يا روحي بلا كتر أسية .......ما تفرحيش الناس فيا .
جوقة نساء
يا روحي بلا كتر أسية .......ما تفرحيش الناس فيا . "
و تسمع صوت السعادة تنبض في عقلها مع نبضات قلبها . و تشم رائحة كرائحة خشب عود . كرائحة عطر جدتها .
الحمد لله على نعمة الصباح .
ضد قوانين كل العقل و العلم . تستطيع أن تتذكر يوم ولدت . صراخ أمها . و الخبط فوق رأسها و رائحة الدم . و طعم براز في فمها . ثم هدوء . و شئ كالجنة . و يسحبها خارج الجنة نفس يضغط فيها .
هل حقا تتذكر ؟ أم أنهم حكوا لها القصة كثيرا ؟
حكوا لها تفاصيل ولادتها . و تفاصيل موت أمها بعد ساعة و نصف من ولادتها . أخبروها كيف جاء ملاك من السماء ، و حملها إلى فوق .
و كلما أعادوا حكاية الحكاية ، كانت تشم رائحة نظافة . رائحة الصابون و البخار في حمام يوم الجمعة ، و رائحة مسحوق غسيل .
بعد أن كبرت ، و تعلمت أن الأرض كروية ، ظلت تؤمن أن ملاكا حمل أمها إلى الجنة . و لكنها أصبحت تعرف أننا لا نعرف إن كانت الجنة فوق أم تحت .

نهضت . مشت تحاول ألا تتعثر . لم تنظر إلى وجهها بالمرآة. الهواء كان أكثر شفافية . اليوم كان كل شئ أكثر منطقية و أكثر قبولا ، كأنها ماتت و انبعثت .
كلما انقطعت الكهرباء كانت تسمع الناس يلعنون أبا العتمة . و يعلم الله كم كانت تنقطع الكهرباء .
و في ذلك الصباح شئ جديد سيبدأ .
ظلام . ظلام . ظلام . و أسود .
مدت يدها لتلمس أسورة الذهب حول معصمها الأيسر . ناعمة . مجدولة . باردة .
البارحة قضت ساعة مستلقية جانب جدتها . صامتة مثلها . ممسكة بيدها المشلولة . تحاول أن تقرأ أفكارها ، لتدخل ذلك العقل الذي يعرف كل شئ و يتذكر كل شئ . كانت رائحة عنق جدتها كرائحة خوخة تخمرت . و كان هناك ضجيج يأتي من الشارع ، و صوت شجار .
جدتها . و عالم جدتها . و القصص و الحكايا .
تتذكر صوتها تعود ، و صوت أكياسها تفتح . و تخرج من الأكياس تنانيرا و قمصانا و أثوابا ، و لا تتركها حتى تجرب ارتداء كل شئ . و تتلو آية الكرسي فوق رأسها لتحميها من العين . و في الليل . بعد انتهاء "غدا نلتقي" . تحكي لها الكثير . عن أمها . عن خالاتها . و عن البيت العربي القديم . و تذكر في حديثها ألوانا . أصفر .أحمر . أبيض . و تنام في حضنها . و كثيرا ما كانتا تحلمان ذات الحلم .

لا صوت في البيت . لا صوت تلاوة قرآن من غرفة جدتها . لا صوت حركة لخالاتها . لا صوت معركة أو حزن . غرفة الجلوس صامتة . الحب صمت . الموت صمت . الإيمان الحق فعل صامت .
و صوت جدتها يدعو : الله لا يوفقه . الله يكسر أيده .
أن تكوني ابنة مدحت رسول .
" قول يا قلبي . قول يا أملي . قول مخبي علي أيه . "
و تتذكر يد أبيها تصفعها . و تشد شعرها . و تركض لتهرب . و تتعثر و تقع . و حزامه يجلد جسدها الصغير ، و فوقها يقع كنان ليتلقى بضع الجلد عوضا عنها . و عبد الحليم ما زال يغني " لو في قلبك شكوى مني ......اشكي مني ...لوم علي . "
عندما تغني . يسكت الجميع . تغمض عينيها . تسمع صوتها فقط ، و تسمع أنفاسهم . و كالعادة خالتها ناهد ستبكي . و تغني و تغني و تغني . و كنان إلى جانبها . يجلس إلى جانبها . يمسك يدها . و يذوب معها . تغني ليسمع .
غضب الله عليها . أغضبت الله كثيرا . و عندما كانت تغني ، كانت تشعر أن الله يكلم قلبها و يغفر لها .
كتب لها كنان أربعمئة و سبعة عشر أغنية ، و كلها تدور عن الحب . و في الليل ، تلحن أغانيه ، و في النهار تغنيها له . و أبوها يعود ، أو لا يعود . لا يهم .
تتذكره . كنان . أكبر من مجرد أخ وحيد . كنان شئ يسكن كل ساعات يومها . بل هو الشئ الوحيد الذي سكن كل ساعات يومها . هو و جنونه و شعره و حزنه و اكتئابه و نوبات بكائه و محاولة انتحاره . كنان . الذي تشكل عنده حادثة دهس صرصور مأساة وطنية . كنان . الذي كان يتحدث في أذنها . و تسمع .
كان هو الوحيد الذي الذي يصدق قدرتها على معرفة المستقبل . و كان هو الوحيد الذي شعرت به يكبر . وجهه الأملس تنبت عليه ذقن و شوارب و يتحول إلى شئ خشن لذيذ كمبرد أظافر . و رائحة عرق تنبعث منه . و جلده بات له رائحة . و شحاطته أصبحت أكبر من قدمها بسبع نمر . و يده التي تمسك يدها أصبحت كبيرة ، تبتلع يدها . و قبضته قوية ، توقف جريان الدم إلى أصابعها ، و تشعر بالنمل و الخدر . و عضلات ذراعيه تضخم . يعانقها كلما بكت ، و تشعر به عملاقا يكسر عظامها . و عندما يبكي ، كانت تضم رأسه الكبير ، و تمسح شعره الناعم الكثيف . لا ترى دموعه ، و لكنها تحس برطوبة تبلل قميصها . و تغني له . أسمهان . فيروز . و كان يسكت . و غالبا ما كان يعود مرة أخرى لحضنها بعد ساعة أو ساعتين ، ليسمعها أغنية جديدة .
و في الليالي . وحيدة في غرفتها . و ظلام . ظلام . ظلام . تغمض عينيها . كل عضلة من عضلات جسمها ، من العنق حتى أصابع قدميها تسترخي . و ملمس بيجامتها ناعم . و تتخيل رائحة جلده ، تتخيل يده ..كفه فوق ثديها . و تفك أزرار بيجامتها ، و تقرص أصابعها الدقيقة حلمتها ، تقرص أقوى و أقسى . تستمر بالقرص حتى يصبح لألم لا يطاق . و كلما أزداد الألم ، تزداد المتعة . و يدها الأخرى ممتدة داخل بنطلون بيجامتها .
أشكال كثيرة من الألم تثيرها . يثيرها أن تجلد بطنها بفرشاة الشعر . يثيرها أن تحرق أصبعها بنار قداحة . يثيرها أن تقرص باطن فخذها ، أو تشرطه بشفرة مقص . يثيرها أن تتذكر كيف يضمها كنان . و كيف تسمع ضربات قلبه . يثيرها أن تتخيله يرميها أرضا ، و يربطها ، و يجلدها بحزامه و يركل بطنها بقدمه و حذائه مقاس 46 .
و مع الصباح تستيقظ . و تتمنى لو كانت ماتت . ما أصعب أن يثير قرفك و غثيانك عفن عقلك .
تستغفر الله . تستغفر الله . تستغفر الله . ثم تستغفر الله أكثر . تغتسل . تتوضأ . تصلي . تتوب . تقسم على المصحف ألا تعود . تطلب من الله ألا يجعلها تعود . تدندن على عودها لحن أغنية جديدة . أبوها يود ، يصرخ ، يضرب ، يكسر ، يغادر . و كنان إلى جانبها .
و مع الليل ، تعود إلى خطيئتها . تمارسها بكل اللذة ، بينما كانت تبكي . تعلق ملاقط غسيل على حلمتيها و فرجها . و تبكي و تبكي . تتمنى لو يبقر أحدهم بطنها ، أو يضغط على عنقها لتختنق و تموت . و يبكيها قرفها ، و مع البكاء تسترجع ملمس الشعر فوق ذراعيه ، و قوة عضلات صدره ، و صوته يهمس لها بأغنية ، و تزداد لذتها . و تنكث بيمينها .

الماء يجري من الحنفية . و يداها تعبثان بالماء . تتحسسه . باردا ثم أقل برودة ثم دافئا ثم حارا يكاد يحرقها .
"نويت الوضوء لله تعالى ."الجميع أخبروها أن صوتها عندما تغني حلو جدا . و هو كتب لها يوما أن صوتها أحلى من تمرة مغطسة بعسل .
كتب لها يوما : أنت ذوبت قمري و نجمي ....و لونت سمائي باللون الفضي ...أنت سري و قري .... هزيمتي و نصري ....ملاكي ....معجزتي ...وردة و ياسمينة في نبضي .
و عندما كانت تصلي ، كانت ترتل القرآن . و كانت تنظر إلى الأعلى ، إلى سقف الغرفة ، و لا ترى سقف الغرفة ، و لكنها تعلم أنها تنظر في أتجاه الله . ، و تعلم أن الله فوق . و أن الله كان أعلى و أعلى و أعلى . و تشعر أنها كانت تدنس سجادة الصلاة الناعمة تحت قدميها ، و أنها تدنس الوضوء و الصلاة ، و هي الدنسة .
تقرأ المستقبل . أخبرت أخاها أن أبا عبد الكريم لن يعود ، و أخبرته أن جدهم سيموت ، و أخبرته أن جدتها ستعيش مشلولة لأربع سنوات . و لكنها لم تخبره أن قلبه سيحزن ، و أن غربة ستأكله .
تقرأ المستقبل ، و لكنها لم تعرف أن ذلك سيحدث . شعرت أن شيئا سيحدث ، و لكنها لم تصدق أنه يمكن أن يحدث .

تغسل يديها ثلاثا . تتمضمض ثلاثا ، تستنشق و تتمخط ثلاثا ، تغسل وجهها ، تغسل ذراعها اليمنى ، تغسل ذراعها اليسرى .
كم تحب الله . الله . الله . الله . يا رب .
في أذنها صوت نجاة الصغيرة . في أذنها فقط . و تغني .
طوت يد الفجر ستار الظلام ....فانهض و بادلني حديث الغرام .
على شاطئ البحر . و رطوبة قاتلة . و رائحة عشب البحر و السمك الميت . و لدغة ناموسة على ذراعها اليسرى ، تحكها . تستند على جدار . و شعرت بأنفاسه ، و بشفته تقبلها ، و بطعم ملح البحر فوق شفتيه ، و رائحة زيت البحر .
توقف كل الغناء . أصبح لصوت أم كلثوم نجاسة بول كلب . و لموسيقى عود نجاسة دم طمث . و توقف كل الغناء . و توقف عقلها .
خرجت إلى بلكون بيتهم بالطابق السادس ، تخطو وسط الظلام ، تمد يدها لتلمس الدرابزين الفولاذي البارد ، و تتمنى أن تتعثر و تقع ، و لكنها لا تتعثر و لا تقع .
لم يعد يكتب قصائد ، و لم تعد تسمع ، و لم تعد تغني . و خالاتها و المشاكل دائما .......و لا شئ غير الظلام .

ظلام .....ظلام .......أسود .....أسود .
اليوم استيقظت لتجد أنها سعيدة . أكثر الناس سعادة .
أن تكوني ابنة " مدحت رسول " ؟ أن يكون صوتك جميل ؟ أن تكوني عمياء ؟
البارحة في المنام سمعت صوتا . كان الصوت يأتي من مكان ما . أخبرها الصوت أنه الله . و رأت ضوءا ، شيئا باهرا رائعا ، لأول مرة ترى شيئا غير الأسود ، أخبرها الصوت في عقلها أن هذا هو الضوء . لأول مرة تعرف أن تعرف الظلام . و رأت في نفس المنام ضوءا مختلفا ، حارا لاذعا ، لطيفا ، له طعم حلو و ملمس لزج ، و أخبرها الصوت أن هذا اللون الأحمر . و رأت ضوءا هادئا طريا ، محا كل الأضواء الأخرى ، و لم يبق إلا هو ، كان ضوءا له رائحة حب و له صوت عندليب ، و أخبرها الصوت أن هذا اللون الأزرق . و ضوء آخر يجعلها تشعر بحب الله ينبض فيها ، لضوء الأخضر ، له رائحة تراب ، و له رائحة ياسمينة خالتها نجلا . و عاد الضوء الأول ، له رائحة منديل جدتها ، و له صوت موسيقى ، و فيه هدوء و ضجيج ، و معه ننسى و نتوه و ننام و نصح ، و أخبرها الصوت أن هذا الضوء الأبيض . و أخبرها الصوت أن هذا هو صوت الله . و أخبرها الصوت أن الله يحبها ، و أنه غفر لها ، و أنها ستعيش طويلا ، و أخبرها الصوت عن بيتها في الجنة .
و عندما استيقظت ، عادت عمياء ، و لكنها أصبحت تعرف الألوان .
يشترون لها ثيابا ، حمراء ، زهرية ، بنية ، صفرء ، سماوية . و هي لا ترى غير الأسود ، و لا تفهم غير الأسود .
اليوم أصبحت تعرف الضوء و تعرف الألوان ، و تعرف تعريف الأسود .
قررت الإقلاع عن الغناء . لا شئ أجمل من ذلك الصوت الذي سمعته . قررت هجر العود .
مسحت شعرها بالماء .
و هذا الشعر .
ظلام . أسود .
" في ذلك المساء ، ركضت ، قبل أن تشرق الشمس . فمع الفجر يعود صيادوا أوغاريت."
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد


أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 17:07 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2015, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.18260 seconds with 11 queries